عاجل
الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ناجٍ من مركب "برج مغيزل" يروي لحظات الرعب والموت

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

في ركن مُعتم، جلس مصطفى عبيد، شابٌ ثلاثيني، أحد الناجين من حادث غرق مركب صيد، داخل منزله بقرية «برج مغيزل»، يتحسس أطرافه ويُردد بلا انقطاع «تعالوا حواليّا، أنا خايف»، يجتمع حوله أطفاله الأربعة، يتلّحف بهم أملاً في دفء يفتقده، وهربًا من ظُلمات البحر ومشاهد «الرعب» التي رآها لأكثر من 20 يوم، ولكن بلا فائدة.

قبل أيام، عقب تردُد أنباء عن غرق مركب صيد على متنها 15 صياد من أبناء قرية «برج مغيزل»، قُرابة مدينة «طبرق» الليبية، حاولنا التواصل مع أهالي الصيادين المفقودين، وكان من ضمنهم والدة «مصطفى»، السيدة العجوز التي لم تسأل عن هوية المُتصل، ولكن أخذت تُردد «أنا ست ضريرة وابني (مصطفى) نور عيني، حد يلاقي ابني يا ولاد الحلال».

«يا رب نجيني عشان خاطر أمي وولادي»، على بُعد عدة كيلومترات عن «برج مغيزل»، حاول «مصطفى» التمسك بخيط النجاة الوحيد، فيما كانت والدته تدعو الله أنّ ينجيه، فاستجابت السماء. كما يقول: «المركب خبطت في منطقة صخور، وقعنا في البحر، لكن فجأة لقيت خشبة، وصارعت الأمواج لحد ما طلعت على البر».

بذاكرة مشوشّة وكلمات خائفة، يتذكّر «مصطفى» كيف بدأت رحلة الصيد التي انتهت بغرق المركب، أو كمّا يصفها برحلة «الموت»، 7 يناير الماضي، قائلاً: «طلعنا بالمركب من رشيد، مُتجهين في رحلة أكل العيش، عشان نصطاد سمك كالعادة، اشتغلنا 4 أيام وربنا رزقنا بسمك كتير، فرحنا وحطناه في صناديق، وبعدين عدلنّا الاتجاه ناحية ميناء (بني غازي) عشان نرجع».

لم تدُم الفرحة طويلاً، إذ حاصرت ميليشيات مركب الصيد، كمّا يروي «مصطفى»: «لقيناهم ضربوا علينا نار وحاصرونا من كل اتجاه»، يصمتْ قليلاً، يرتعش صوته على الناحية الأخرى من الهاتف، ثم يضيف «قعدنا نترعش في المركب من كُتر الخوف، إحنا رجالة بس كُنا (بنتكتك) زي ماكينة المركب بالظبط».

ويصف «مصطفى» ما تعرض لهُ هو ورفاقه من الصيادين، عقب احتجاز المركب، ويضيف «سحبونا وبعدها وصلنا للبر، أخدوا بعدها فلوسنا والسمك وكل حاجة معانا». ظنّ حينها الصيادون أنّ الأمر سينتهي عند ذلك الحد.

في كل مرة، تتعدى مراكب الصيد فيها سواحل الدول الأخرى، يتم دفع غرامة، ثم تعود المركب، كما يوضح أحد أهالي القرية، التي يعمل 93% من أهلها بحرفة الصيد، لا مصدر للرزق هُناك سوى البحر: «المراكب بتاعتنا بتروح ليبيا عشان السمك هناك (ياما) كتير، وبعدها بيتم احتجازهم، يدفعوا غرامة مالية ويرجعوا تاني».

«كُنا 15 راجل، طلعونا نلم الزبالة من الأرض ونلم عضم (عظام) الأموات»، يستكمل «مصطفى» ما حدث بصعوبة، «سابونا من غير أكل لمدة يومين»، يُغالب صوته القهر، ثم يكمل «كُنا بنشحت الأكل، بنقسم الرغيف سوا عشان نعيش».

استمرت الأحوال هكذا لمدة 4 أيام، بعد إبلاغ صاحب المركب، بضرورة دفع 400 ألف جنيه، وبالفعل قام صاحب المركب بدفع المبلغ، ثم مكثت المركبة هُناك لمدة 5 أيام، حتى انتصف شهر يناير، وسُمح لهم بالعودة، حسب «مصطفى»: «فرحنا لما طلعنا من المينا عشان نرجع مصر قبل انتهاء رخصة المركب، وعشان نرجع لأهلنا وعيالنا».

كانت نشرات الطقس حينها تُحذر من عدم استقرار الأحوال الجوية، توقفّت رحلات الصيد القادمة من «برج مغيزل»، خوفًا من سرعة الرياح وبطش الأمواج العاتية، ولكن في تلك الأثناء، استعد 15 صياد للعودة إلى الديار، رغم الطقس السيئ، فضّلوا الموت عن الإذلال الذي تعرضوا له، ولكن البحر لم يستوعِب خوفهم، «البحر قعد ياخُدنا ويشيلنا، حاولنا نقرب للبر لكن معرفناش بسبب النوة، اتصلنا بصاحب المركب عشان يلحقنا».

ليلة مُظلمة مرّت على الصيادين، سيناريوهات عدّة دارت في المخيلات، تمنّوا العودة إلى قريتهم الصغيرة، ولكن البحر كان يستعد ليبتلعهم جميعًا كوجبة عشاء في آخر الليل، إذ يقول «مصطفى»: «العاصفة قطعت الحبل اللى حاولنا نرميه عشان يوصلنا للبر، المركب اتخبطت في منطقة صخور واعرة، وفجأة لقيت نفسي في البحر لوحدي».

«ليل وبرد وضلمة وصوت صيّاد أعرفه بيتردّد من بعيد»، لم يُشاهد «مصطفى» أي شئ بعد غرقه، فقط يتذكر المشهد السابق، أراد العودة لإنقاذ رفيقه الذي نادى عليه، ولكن الأمواج حملته بعيدًا، حتى تعلّق في خشبة «كُنت غريق واتعلق في قشاية»، إلى أن وجد نفسه على الشاطئ وحيدًا، كمّا ولدته أمه، «اتصابت في رجلي من الصخور، وطلعت من غير هدوم».

قُرابة شاطئ مدينة «طبرق» الليبية، وجد «مصطفى» نفسه.

رغم أن الصيد حرفته الوحيدة، يخشى «مصطفى» مواجهة البحر مجددًا، «أنا هخاف أنزل البحر تاني»، ويضيف أملاً في زوال الأيام الثقيلة، حتى يتمكن من التعافي وإيجاد مهنة أخرى، تُعينه على سدّ رمق أطفاله الأربعة، بجانب إعانة والدته المريضة: «أنا خايف، كل ما يجي عليا الليل بخاف وافتكر».

أسعفته حينها الشرطة الليبية، حسب قوله، ثم أرسلوه إلى السلوم، هُناك كان ينتظره أهالي المفقودين، حسبْ شهادة الريّس «حميدة»، خال الصياد، سمير على حسان، 25 سنة، والذي قال: «إحنا في القرية كلنا شغالين في البحر، بنطلع نسرح 20 يوم عشان نجيب قرش للعيال ونرجع 10 أيام ونروح تاني، حياتنا كلها في البحر».

ألقى «حميدة» اللوم أيضًا على صاحب المركب، نصر عبدالرحمن، قائلاً: «صاحب المركب كان عارف إن في نوة جامدة هتحصل، المفروض مكنش المركب طلع من المينا. كان عاوز يجي في ميعاده عشان الرخصة متتسحبش منه»، يبكي على فقيده «أهو راح المركب وراح الناس».

فيما قال صاحب المركب، باختصار شديد: «حزين على مالي وعيالي»، وأضاف «محرك المركب اتعطّل أمام السلوم، رماها الريح الناحية الغربية، النوة كانت شديدة وسرعة الريح كبيرة، والمركب اتفتح».

لم ينجو من المركب إلا 5 أشخاص فقط، فيما بلغ عدد المتوفين، 10 أشخاص، وصلت جثامين 6 منهم إلى القرية، ولا يزال البحث مستمر عن 4 مفقودين، حسب شهادة أهالي القرية.

لا تخلو قرية «برج مغيزل» من غائب أو مفقود، بجانب رحلات الصيد إلى المجهول، تُعرف القرية بأنها بوابة للهجرة غير الشرعية، حسب تصريحات النائبة، هالة أبوالسعد، عضو مجلس النواب عن كفر الشيخ، إذ فسّرت خروج الصيادين من المياه الإقليمية، بسبب أن المساحة المُحددة لهم، لا تسمح بالتجاوز أكثر من 3 ميل بحري، كما تقول: «المساحة دي فيها السمك الزريعة الصغيرة، الصيادين بيضطروا يتعدّوا القانون عشان يجيبوا سمك كتير».

وعن الحوادث المُتكررة للصيادين في «برج مغيزل»، يُذكر أن السلطات الليبية ألقت القبض على مركب الصيد «الأمير حميد» بميناء زوارة الليبى، وعلى متنه 15صياداً، يناير 2014، الأمر الذي تكرر في شهر فبراير أيضًا من العام نفسه، إذ احتجزت سلطات خفر السواحل الليبية، مركب صيد «المؤمن بالله» وعلى متنه 15 صيادًا، وتكررت أيضًا في 2015 و2016، إذ انتشلت القوات البحريّة، جثتي صيادين اثنين من البحر، أمام سواحل مدينة براني، بينما نجا ثالث.
تابع موقع تحيا مصر علي