عاجل
الثلاثاء 23 أبريل 2024 الموافق 14 شوال 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: لا تفعل شيئا حتى تكون "صالحا"!

تحيا مصر

أغرب ما شهده العالم خلال أزمة كورونا هو أن الشيء الوحيد الأكثر أهمية المطلوب منا القيام به هو عدم القيام بشيء! استمر العالم لعدة أشهرعلى تلك الوتيرة النمطية المملة: البقاء في المنزل، الابتعاد عن الناس، تجنب المواصلات العامة، عدم ممارسة الرياضة، الامتناع عن القبل والأحضان وغيرها من التصرفات التي كانت تشعرنا أننا موجودون! نعم.. تأمل الآن العالم الذي يختبر قيمة جديدة لم تٌطرح عليه من قبل: أحسن شيء يمكنك القيام به لجعل العالم مكانًا أفضل هولا شيء. هي فلسفة وليدة التجربة تدعو لعدم القيام بشيء لتكون شخصا صالحا وتحقق مصلحتك ومصلحة غيرك، وهي تعكس في نفس الوقت كمَا من المفارقات التي نتوقف عندها للتأمل في الحياة ونقيس الإنجازات والإخفاقات ونرى هل تساوي القلق والتوتر الذي يرافق كل حالة من تلك الحالات.

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: معركة حول "الأستاذ" هيكل!
لم يكن التوقف عن فعل الأشياء التي تعودنا في سابق عمرنا القيام بها بشكل يومي بالأمر الهين، خاصة لو كنا قد نشأنا على محاسبة النفس على قائمة تكليفات يومية أو دورية علينا إنجازها، فما بالنا بمجتمعات قامت حضاراتها على تقدير الإنجازات والاحتفاء بالعمل. وهناك الكثير من الأشخاص المتشبعين بهذه القيم سارعوا للعودة إلى سالف نشاطهم بعد الحرمان من العمل وطعم الإنجاز الذي يعد محفزا رئيسيا لهم لأنهم لمسوا عبر شهور الإغلاق أن أجمل قيمة في الحياة أن يكون هناك شيء ملموس يجب القيام به. ومن هنا يزول أي استغراب أو نقد لدى البعض تجاه من يحاولون الآن التعايش مع الفيروس بشكل أقرب للوضع الطبيعي ويرفضون دعوات الإغلاق من جديد بدعوى السلامة لأنها لم تتحقق لهم؛ فخلال الشهور الماضية نجد أن معظمهم قد سيطر عليه التوتر وهو لا يفعل شيئا يٌذكر، وبعضهم أصابته أمراض شتى بينما كان الخوف من مرض واحد وهو العدوى من الفيروس هو فقط ما يشغله. هذا على الرغم من أن التوتر كان يلازمهم سابقا وهم في أقصى درجات الانشغال بالعمل والتركيز في إنجاز الأشياء المطلوبة منهم حتى يؤدونها على أفضل وجه. فسبحان مغير الأحوال حيث أصبح التوتر يلازمهم هذه المرة بدافع من شعور مؤلم وهو أنهم لا يفعلون ما يجب أن يفعلوه وما هم بحاجة فعلاً إلى إنجازه.
غريب حال هذا الإنسان.. كم كان يتمنى أن يتوقف عن القيام بأعمال كثيرة لأنه يستحق بعض الراحة والكسل "الممتع"، ولكن الشغف بالعمل ومحاسبة النفس عن التقصير يمنعه عن التوقف؛ أما وقد اضطر لعدم فعل شيء يذكر فأصبح يستحق الشكر والثناء!
وهذا يقودنا لمن تعودوا على الإنجازات الكبرى ولا يقتنعون إلا بعمل ما هو أكثر من عادي، هؤلاء قد يكونون قلة ضمن الجموع الكبيرة نشاهدهم وهم يعملون ويسعون لتحمل المسئوليات ويقودون فرق عمل لتنفيذ مهمات لا يكلون ولا يملون، وتقام على أكتافهم أعظم المشروعات.. هؤلاء هم أكثر من أصابتهم الأزمة بالقلق المفرط وأثرت على صحتهم وحالتهم النفسية ولم يعرفوا كيف يستمتعون بجلوسهم في المنزل مع أبنائهم وشركائهم في الحياة يسيطر عليهم الارتباك لعدم القيام إلا بالنزر القليل وهم من تعودوا على المهمات والتحديات "بصيغة الجمع" وأصبح إنجازهم الكبير أن يخدعوا أنفسهم بالإنجاز فيقنعون أنفسهم بشعارات من قبيل "كن منتجًا وأنت لا تفعل شيئا" فذلك بالضبط ما هو مطلوب لعدم إفساد الأمور!

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: متحرشون بالرجال!

ولعل المعضلة الأكبر لهؤلاء أصحاب الإنجازات الكبرى هي فلسفة الحياة التي عاشوا بها واقتنعوا بأهميتها ومطلوب أن يتركوها جانبا ولو لبعض الوقت؛ وتعتمد على أن القيمة الأخلاقية تتحدد بناءا على الإنجازات وأن الإنسان يكتسب حقه في الوجود من خلال تحقيق الأهداف في الحياة الشخصية والعمل وتزداد قيمته بقدر ما يحققه من أهداف؛ فمثلا لو كان أما أو أبا يٌحسب ما حققته أو حققه من أهداف في الأسرة وما وفراه للأبناء من قيمة مضافة للحياة كالتربية الحسنة والسلوك المتوازن والتنشئة على المثل الأخلاقية التي تجعلهم صالحين وسط المجتمع وتوفير المنزل الجيد وسبل العيش الكريم والتعليم الذي يؤهلهم للعمل الكريم في المستقبل ووسيلة الانتقال التي تسهل الحياة وصولا للترفيه والرفاهية. أما في العمل، فالقيمة تتمثل في الالتزام بأداء متطلباته وتحقيق الأهداف المرسومة .. وإذا لم يفعلوا كل ذلك فهم بالتأكيد أشخاص سيئون! وبنفس هذه المثالية ، عليهم الآن التريث وترك هذه الفلسفة ومٌثلها السامية جانبا من أجل هدف جديد وهو تحقيق السلام مع النفس والآخرين بغض النظر عن الأهداف والإنجازات الكبرى. نعم هي مهمة صعبة .. بل ربما تكون المهمة الأصعب في العمر.
أظن أني أدخلت عليكم الحزن والكآبة وقرر بعضكم أن يكرهني بعد أن أسقطت قيمة العمل وتأثيره من حسابات الكون .. تريثوا ولا تتوقفوا عن القراءة فالقادم أفضل.
الحقيقة أن الوجه الآخر لفلسفة "أن لا تفعل شيئا لتكون صالحا" هو أن يبدأ الآخرون في قياس تأثير أصحاب الإنجازات بشكل أكثر موضوعية عندما يتوقفون عن العمل بلا إرادة أو قصد منهم.. كيف سيصبح العالم بدونهم وبدون شغفهم وتفانيهم؟! قد يكون أفضل لبعض الوقت، لكنه سيتحول على المدى الأطول إلى جحيم بدونهم!
لعل القيمة الفلسفية التي يمكن الخروج بها من تجربة أزمة كورونا وما واكبها من توقف عن الفعل هو ما تستدعيه من تأمل و انتباه إلى أهمية "احتضان اللحظة "- أي لحظة حالية تمر علينا- بحلوها ومرها وهي لا تعد ولا تحصى في سياق الحياة، فإذا لم "نحتضنها" لأننا في سباق دائم مع الإنجاز أو لم نتعود التوقف الطوعي سنفسد الأمور حتما ولن نقدر على العمل، كل لحظة وكل ساعة وكل يوم، بشكل رائع ومبهج لنا وللآخرين!
[email protected]
تابع موقع تحيا مصر علي