من يحمي المريض من جشع الدواء؟
في خضم التحديات الاقتصادية المتصاعدة التي يواجهها المواطن المصري، تبرز أنباء الأرباح الطائلة التي جنتها شركات الأدوية الكبرى كصدمة إضافية تثير العديد من علامات الاستفهام، فقد أظهرت البيانات أن أرباح ست شركات أدوية مدرجة بالبورصة قفزت بأكثر من 50% خلال النصف الأول من عام 2025، لتصل إلى 1.57 مليار جنيه، مدفوعة بشكل رئيسي بارتفاع أسعار الأدوية بنسب تتراوح بين 30% و50%. هذه الأرقام، وإن كانت تعكس انتعاشًا اقتصاديًا لقطاع حيوي، إلا أنها تضع على طاولة البحث تساؤلات أخلاقية وإنسانية عميقة حول دور الدولة في حماية مواطنيها، وحول حدود المسؤولية الاجتماعية لهذه الشركات.
إن ما يُثار اليوم ليس مجرد نقاش اقتصادي بحت، بل هو صراع بين الحق في الربح المشروع وحق المواطن في العلاج، وهو حق دستوري مكفول. فهل يمكننا أن نقبل بأن تكون أوجاع المرضى بوابة لتحقيق هذه الأرباح الفلكية، خاصة في ظل تأكيدات من رؤساء شعب الصيادلة بأن السبب الرئيسي لنمو الأرباح هو ارتفاع الأسعار وليس زيادة المبيعات؟ هذا الطرح يحيلنا إلى تساؤل جوهري: هل كانت الزيادات السعرية ضرورة اقتصادية ملحة للشركات، أم أنها جاءت نتيجة لـ "لي ذراع" الحكومة وتهديدات متكررة بوقف الإنتاج، كما تشير بعض الروايات المتداولة؟ أليس هذا التصرف، إن صح، يُشكل ضغطًا غير مقبول على صانع القرار، ويدفع باتجاه قرارات قد لا تكون في إتجاه الصالح العام؟إن الدور المنوط بالحكومة، وفقًا لروح ومبادئ القانون ومقتضيات الدستور، يتجاوز مجرد كونه مُشرعًا ومنظمًا، ليصبح حاميًا لحقوق المواطنين الأساسية، ومنها الحق في الصحة والدواء بأسعار عادلة ومناسبة.. وهنا تبرز تساؤلات ملحة: هل قامت الحكومة بدراسات مستفيضة للوقوف على التكلفة الحقيقية لإنتاج الدواء قبل الموافقة على هذه الزيادات؟ ألم يكن هناك بديل عن الموافقة الكلية على رفع الأسعار، كتقديم دعم مباشر لشركات الأدوية أو البحث عن مصادر أرخص للمواد الخام؟
وفي ظل هذا السياق، لا يمكننا إغفال التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الزيادات، فكم من الأسر، التي تكافح لتغطية نفقاتها الأساسية، ستجد نفسها عاجزة عن شراء الأدوية الضرورية لأفرادها؟ وكم من المرضى سيتوقفون عن استكمال علاجهم بسبب عدم قدرتهم على تحمل التكاليف الباهظة؟ إن هذه القرارات، وإن بدت اقتصادية بحتة، إلا أنها تحمل في طياتها أبعادًا إنسانية واجتماعية قد تؤدي إلى تدهور الصحة العامة للمجتمع، وربما تزيد من معدلات الوفيات بين الفئات الأكثر احتياجًا. هل يمكن للحكومة أن تُعلن بوضوح عن خطتها لمواجهة هذه التحديات، وعن الإجراءات التي ستتخذها لضمان وصول الدواء لجميع المواطنين، بصرف النظر عن قدراتهم المالية؟
وفي الختام، فإن الحديث عن "آفاق إيجابية لشركات الدواء المصرية" في ظل عوامل داعمة، يجب أن يقابله حديث عن آفاق إيجابية للمواطن المصري في الحصول على دواء فعال وبسعر عادل. إن تحقيق الأرباح ليس جريمة، ولكن يجرم عندما يتحول إلى استغلال لحاجة الناس وأوجاعهم، وعندما تغيب الرقابة الفعالة والشفافية في اتخاذ القرارات التي تمس حياة الملايين، فهل ستعيد الحكومة النظر في آليات التسعير والرقابة لضمان التوازن بين دعم الصناعة الدوائية وحماية حق المواطن في الحصول على دواء ميسور التكلفة؟ هذا هو السؤال الذي ينتظر إجابة واضحة وصريحة، بعيدًا عن لغة الأرقام الجافة التي لا تعكس بالضرورة حجم المعاناة.