«حرب الأبراج» في غزة.. أكبر عملية تهجير قسري منذ النكبة
لم تعد غزة تعرف الليل من النهار، فالسحب السوداء تغطي سماءها، وأصوات الانفجارات لا تهدأ منذ أسابيع. في قلب المدينة التي كانت تضج بالحياة، تتهاوى الأبراج السكنية واحدًا تلو الآخر تحت قصف إسرائيلي متواصل يصفه المراقبون بأنه "حرب إبادة مكتملة الأركان".
ما يحدث ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل عملية تدمير منظمة تستهدف شطب مدينة كاملة من الوجود، وتحويل مئات الآلاف من سكانها إلى نازحين مشردين بلا مأوى، ووبينما تتفاخر القيادة الإسرائيلية بإنجازاتها العسكرية المتمثلة في "إسقاط الأبراج"، تتكشف فصول كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث يذوق الفلسطينيون مرارة التهجير الجماعي في مشاهد تستحضر نكبة 1948، وسط صمت دولي أكثر رعبا.
حرب الأبراج.. سياسة اقتلاع جماعي تستهدف سكان المدينة
منذ الحادي عشر من أغسطس الماضي، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي حملة غير مسبوقة عُرفت إعلاميًا باسم "حرب الأبراج".
لم تكن هذه العمليات عشوائية، بل جاءت وفق خطة عسكرية معلنة تستهدف الأبراج والعمارات السكنية المرتفعة في قلب مدينة غزة. وبحسب تقارير محلية، فإن هذه السياسة ليست مجرد محاولة لكسر بنية تحتية لحركة حماس كما تدّعي إسرائيل، وإنما مخطط مدروس لاقتلاع عشرات الآلاف من المدنيين ودفعهم للنزوح القسري.
نتنياهو يتباهى بالدمار.. "أسقطنا أبراج الإرهاب"
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياه تباهى علنًا أمام الرأي العام. في كلمة مصورة وجّهها قبل أيام، أعلن أن سلاح الجو الإسرائيلي أسقط خمسين برجًا خلال يومين فقط، واصفًا إياها بأنها "أبراج الإرهاب"، ما أثار صدمة واسعة، إذ بدا وكأنه إقرار رسمي باستهداف المدنيين وتشريدهم، بعيدًا عن أي اعتبار للقانون الدولي الإنساني.
ذرائع عسكرية ورفض فلسطيني قاطع
الجيش الإسرائيلي يبرر هجماته على الأبراج بزعم وجود بنى تحتية تابعة لحركة حماس داخلها، لكن هذه المزاعم سرعان ما اصطدمت بالنفي القاطع من الحركة وسكان الأبراج أنفسهم، الذين أكدوا أن المباني كانت تأوي عائلات مدنية ومكاتب إعلامية ومؤسسات تجارية. منظمات حقوقية محلية ودولية وصفت هذه التبريرات بأنها "ذرائع واهية لشرعنة جرائم حرب"، مشيرة إلى أن التدمير المنهجي يتسق مع سياسة تهجير قسري تهدف إلى إعادة رسم الخريطة السكانية للقطاع.
أرقام مرعبة.. أكثر من 3600 برج وعمارة مدمرة
وفق الإحصاءات الرسمية، تعرض أكثر من 3600 مبنى وبرج في مدينة غزة للتدمير الكلي أو الجزئي منذ اندلاع العدوان الأخير. هذه الأرقام تعكس حجم الدمار الهائل الذي حوّل أحياء كاملة إلى ركام في غضون أسابيع. خبراء عمرانيون أكدوا أن حجم الدمار في الأبراج وحدها كفيل بمحو ملامح مدينة كاملة، بينما وصفه آخرون بأنه "مخطط لمحو غزة من الخارطة الحضرية".
نزوح قسري واسع. مئات الآلاف بلا مأوى
الدمار العمراني انعكس مباشرة على السكان الذين وجدوا أنفسهم بين خيارين أحلاهما مر: البقاء تحت القصف أو النزوح نحو المجهول. جيش الاحتلال أعلن نزوح أكثر من ربع مليون فلسطيني من غزة، فيما تشير بيانات حكومية محلية إلى أن الرقم يتجاوز 350 ألفًا نزحوا نحو الوسط والغرب. هذه الحركة الاضطرارية غيرت المشهد السكاني للمدينة، وجعلت آلاف العائلات تعيش في ظروف إنسانية مأساوية تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
كل برج مدمر يعني حيًا كاملًا مشردًا
يرى المراقبون أن قصف برج سكني واحد يكافئ قصف حي كامل. فكل برج يضم بين سبعين إلى ثمانين شقة على الأقل، أي مئات الأسر، وبحسب التقديرات، فإن الأبراج التي دُمرت كانت تحتوي على أكثر من عشرة آلاف وحدة سكنية يقطنها نحو خمسين ألف نسمة. وبمجرد سقوطها تحولت هذه الأسر إلى لاجئين في وطنهم، يبحثون عن مأوى مؤقت وسط مدينة لا مكان فيها آمن.
مشاهد مأساوية: قصة برج مشتهى
واحدة من القصص التي تلخص حجم المأساة وقعت في برج مشتهى. سكانه تلقوا إنذارًا بإخلاء المبنى خلال عشر دقائق فقط. لم يكن أمامهم وقت لإنقاذ ممتلكاتهم أو حتى جمع أوراقهم الرسمية، وغادروا المبنى بخطوات مسرعة وأعين دامعة، وبعد دقائق قليلة كان البرج قد تحول إلى ركام. هذه القصة تتكرر يوميًا في غزة، حيث تلتهم الصواريخ بيوتًا شُيّدت خلال عقود، في ثوانٍ معدودة.
البنية التحتية في مرمى النيران
لم تقتصر الحرب على الأبراج السكنية، بل امتدت لتطال البنية التحتية. شبكات الاتصالات التي كانت تتخذ من الأبراج مقرات لها انهارت تحت القصف، فيما استهدفت الغارات خيام النازحين في محيط المباني المدمرة. تقارير حقوقية أشارت إلى تدمير أكثر من 13 ألف خيمة، ما يعني أن حتى الملاذ المؤقت لم يعد آمنًا. الأمم المتحدة أكدت أن غالبية سكان القطاع، الذين يتجاوز عددهم مليوني نسمة، اضطروا للنزوح من منازلهم منذ بداية الحرب.
صمت دولي وانتقادات فلسطينية
على الرغم من التحذيرات الأممية من وقوع كارثة إنسانية كبرى، فإن المواقف الدولية ظلت تراوح مكانها بين بيانات قلق ودعوات إلى التهدئة. حركة حماس وصفت هذا الموقف بـ"الصمت المتواطئ"، فيما اعتبرت منظمات إنسانية أن غياب ضغط دولي جاد سمح لإسرائيل بمواصلة عملياتها دون رادع، بينما الحديث عن القانون الدولي بدا وكأنه مجرد شعارات في مواجهة واقع دموي يتكشف يومًا بعد يوم.
"عربات جدعون 2"..خطة الاحتلال للسيطرة الكاملة
تحت عنوان "عربات جدعون 2"، يواصل الجيش الإسرائيلي توسيع عملياته بهدف السيطرة الكاملة على مدينة غزة. هذه الخطة تثير قلقًا حتى داخل إسرائيل، حيث حذّر مسؤولون من أن استمرار التصعيد قد يهدد حياة الجنود والأسرى داخل القطاع. غير أن هذه التحذيرات لم توقف آلة الحرب، التي تواصل طحن المدينة وأهلها، لتبقى الأبراج التي كانت يومًا رموزًا للحياة والحضارة، شاهدًا صامتًا على واحدة من أبشع المآسي في التاريخ الحديث.