ممرضة أميركية توثق "الجنون".. انهيار المنظومة الصحية في غزة بالصوت والصورة
وصفت الممرضة الأمريكية أندي فوجان الوضع داخل مستشفى القدس بمدينة غزة بكلمة "جنون" لتعبر عن الذي عايشته خلال فترة تطوعها التي بدأت في يوليو 2025 مع الجمعية الطبية الفلسطينية - الأسترالية - النيوزيلندية.
تحولت رحلتها الإنسانية إلى مهمة توثيقية صارخة لانهيار نظام الرعاية الصحية بأكمله تحت وطأة القصف الإسرائيلي المتواصل والحصار الشامل، حيث أصبحت فوجان والعاملون المتطوعون مثلها مصادر حيوية للمعلومات عن الوضع الكارثي في المدينة، خاصة بعد منع إسرائيل وسائل الإعلام الأجنبية من الدخول، فكانت مقاطع الفيديو التي التقطتها بهاتفها الجوال شهادة إنسانية على كارثة يتفكك فيها النظام الصحي حجراً حجراً أمام أعين العالم .
وحسب تقرير لـ"الشرق الأوسط" صوّرت فوجان من غرفتها في الطابق الخامس طائرات حربية ومقذوفات تهز أسس المبنى، بينما حجبت أعمدة الدخان الكثيفة الرؤية من نافذتها، وفي مشهد آخر مؤثر، التقطت كاميراها طفلاً يحمل وعاء ماء بحجمه يتجمد في مكانه بينما تهتز الجدران حوله بسبب الانفجارات في ليلة السبت، حيث أصبحت هذه المخاطر واقعاً مأساوياً عندما تعرضت قافلة قرب المستشفى لإطلاق نار، أصاب مراهقاً بجرح في الرأس، كان ربما آخر مريض يدخل إلى مستشفى القدس قبل أن يتحول إلى شبه خراب .
المستشفى تحت النار... تحول الملاذ إلى هدف
أصبح مستشفى القدس، الواقع على الطرف الجنوبي لمدينة غزة، رمزاً لانهيار المنظومة الصحية بأكملها. المستشفى الذي كان يتسع لـ 120 مريضاً، لم يعد فيه سوى نحو 20 مريضاً فقط، بينهم رضيعان في العناية المركزة، فيما يؤوي المبنى حوالي 60 من الأطباء والممرضين وعائلات المرضى الذين لم يعد لديهم مكان آخر يلجؤون إليه. لكن هذه البقعة التي يفترض أن تكون محمية باتت نفسها على خط النار.
ووفقاً لنبال فرسخ، المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني الذي يدير المستشفى، حاصرت المركبات الإسرائيلية المستشفى "مما أدى إلى تقييد حركة الموظفين والمرضى المتبقين بشكل كامل"، بينما أطلقت طائرات دون طيار النار على المستشفى والمباني القريبة منه .
لم يكن نقص الأدوية والمعدات سوى جزء من المعاناة، فالبنية التحتية للمستشفى نفسها تتعرض للتفكيك المتعمد. عانى المستشفى من نقص حاد في المياه والكهرباء والأكسجين، بعد أن تعرضت محطة الأكسجين فيه لإطلاق نار إسرائيلي مباشر.
وهذه الأوضاع دفعته إلى إجلاء معظم مرضاه على عجل خلال الأسبوع الماضي مع اقتراب القوات الإسرائيلية، في مشهد يلخص انهيار المنظومة الصحية، ما اضطر المسعفون إلى إنزال أحد المرضى - الذي يعاني من حروق بالغة في 40% من جسده - في حقل من الأنقاض، وتغطية جسده بالشاش وطلب منه التوجه بنفسه إلى عيادة لتلقي العلاج، في علامة على انهيار كامل لآليات الرعاية الطبية الأساسية .
نظام صحي على حافة الهاوية
وفقاً لتحذيرات جمعية الإغاثة الطبية في القطاع، أدى انقطاع الإمدادات الطبية والوقود من جنوب القطاع إلى شماله إلى تفاقم الأزمة بشكل كارثي. خرج عدد من المستشفيات بشكل كامل عن الخدمة، بما فيها مستشفى الرنتيسي للأطفال ومستشفى العيون، إضافة إلى تدمير 8 مراكز صحية من بينها مركز الإغاثة الطبية الفلسطينية في منطقة السامر، الذي يعد من أكبر المرافق المساندة للمستشفيات في مجال الفحوصات المخبرية .
وتعاني المستشفيات القليلة التي ما زالت تعمل من ظروف لا إنسانية. وفقاً للدكتور أشرف القدرة، الناطق الرسمي باسم وزارة الصحة في غزة، لم يعد هناك سوى "خمسة مستشفيات فقط تعمل" من أصل 12 مستشفى و32 مركزاً للرعاية الأولية خرجوا من الخدمة بسبب عدم توفر الوقود.
وبلغت نسبة الإشغال السريري داخل المستشفيات 170%، مما دفع الكثيرين من المصابين إلى "افتراش الأرض وإقامة خيام أمام المستشفيات" بسبب الأعداد الكبيرة التي تفوق قدرة المستشفيات الاستيعابية. هذه الأوضاع أدت إلى عواقب مأساوية حيث "يفقد الكثيرون حياتهم بسبب عدم توفر الإمكانيات الطبية والطاقات البشرية" .
الطواقم الطبية بين الموت والنزوح
تواجه الكوادر الطبية في غزة مخاطر وجودية تهدد قدرتها على الاستمرار في تقديم أبسط خدمات الرعاية. وفقاً للتقارير، تواجه الطواقم الطبية خطراً كبيراً أثناء تنقلها بين منازلها والمستشفيات، ما يضطرها للبقاء داخل المستشفيات لأيام متواصلة. وقال مدير جمعية الإغاثة الطبية بسام زقوت إن تقدم القوات الإسرائيلية نحو مدينة غزة وإجبار السكان على النزوح جعل العمل الطبي بالغ الصعوبة، مؤكداً أن المستشفيات تستمر في تقديم الخدمات حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يتم إخلاؤها قسراً من قبل الجيش الإسرائيلي .
تفاقمت أزمة الكوادر الطبية بشكل خطير مع استمرار الحرب. أفادت تقارير بأن عدد الأطباء الذين قتلوا منذ بداية الحرب وصل إلى 116 طبيباً، بالإضافة إلى تدمير 25 سيارة إسعاف واستهداف 57 مؤسسة صحية. وقُدّر عدد العاملين الطبيين من غزة رهن الاحتجاز الإسرائيلي حتى فبراير (شباط) بأكثر من 160 عاملاً.
وهذه الخسائر الفادحة في الصفوف الطبية أدت إلى نقص كبير في الأطباء، مما يهدد القدرة على التعامل مع الجرحى الذين يتوافدون على المستشفيات، خاصة مع تعقيد الإصابات التي توصف بأنها "غائرة جدا وتحتاج إلى الكثير من الوقت لتضميدها، وكذلك إلى مضادات حيوية ومتابعة سريرية مكثفة" .
كارثة إنسانية تتجاوز القدرة على الاحتمال
ومع استمرار القصف الإسرائيلي العنيف، وتقييد حركة السكان تحت الحصار، باتت المدينة تعاني من مجاعة حقيقية حسبما يؤكد خبراء دوليون. وتفاقم هذه الأوضاع مع إغلاق إسرائيل المعبر الحدودي إلى شمال غزة منذ 12 سبتمبر، مما منع وصول شحنات المساعدات المباشرة إلى المدينة. حاولت منظمات الإغاثة إيصال الإمدادات من الجنوب عبر طرق محفوفة بالمخاطر، لكن القيود الإسرائيلية المزدادة على حركتها أحكمت الحصار على المدينة ومحتجزيه .
وتحولت المستشفيات والمدارس التي تؤوي النازحين إلى بؤر للأمراض والأوبئة. قال الدكتور أشرف القدرة إن مئات الآلاف نزحوا باتجاه هذه المرافق، حيث يتواجد في كل مستشفى ما بين 30 إلى 50 ألف نازح. هذه الأعداد الهائلة "تفتقر إلى المياه والنظافة الشخصية" مما أدى إلى انتشار الأمراض الجلدية والمعدية والجدري المائي والإسهال والإنفلونزا بين النازحين.
وحذر الدكتور أحمد جبريل، المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، من أن بعض الأمراض قد "انتشرت نتيجة انقطاع المياه، واختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، والاختلاط الكبير في مراكز الإيواء". هذه الظروف ستؤثر حتماً على جرحى القصف الإسرائيلي الذين يتوافدون على المستشفى بحروق تصل نسبتها من 80 إلى 100%، مما يزيد من تعقيد حالتهم الصحية ويقلل فرص نجاتهم .
صرخة أخيرة من تحت الأنقاض
بعد إجلائها يوم الثلاثاء مع طبيب آخر وتوجهها جنوباً، قالت فوغان من دار ضيافة في دير البلح: "أتلقى رسائل من زملائي في العمل هناك يسألونني عن سبب مغادرتي. يقولون لي إنهم سيموتون".
وهذه الرسائل تختصر المأساة الإنسانية التي يعيشها العاملون الصحيون في غزة، المحاصرون بين واجبهم نحو مرضاهم وخطر الموت الذي يلاحقهم مع كل قذيفة. المشاهد التي وثقها العاملون الصحيون والمتطوعون مثل أندي فوغان لا تمثل مجرد ظروف عمل صعبة، بل تشير إلى انهيار ممنهج لمنظومة الرعاية الصحية بأكملها، في إطار استراتيجية تبدو موجهة لحرمان السكان المدنيين من أبسط حقوقهم الإنسانية .
تحذيرات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان من أن إسرائيل تستهدف المستشفيات بشكل ممنهج، باستخدام الضربات المباشرة وأساليب الحصار والغارات، لم تمنع استمرار هذه الانتهاكات.
ومع تقدم القوات الإسرائيلية وفرار المزيد من المرضى والموظفين من المستشفيات، كما حدث عندما فر نحو 100 مريض من مستشفى الشفاء مع اقتراب الدبابات الإسرائيلية، يتردد صدى كلمات حسن الشاعر، المدير الطبي في مستشفى الشفاء: "الخوف حقيقي". هذا الخوف هو الإرث الذي تتركه الحرب على غزة، حيث لم تعد المستشفيات ملاذاً آمناً، ولم يعد الأطباء قادرين على أداء مهنتهم، ولم يعد المرضى يجدون من يعالجهم، في مشهد يلخص الانهيار الكامل للنظام الصحي والإنساني في المدينة