هل حل الدولتين لا يزال ممكنًا؟
منذ أواخر ستينيات القرن العشرين بدأت فكرة التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي على أساس مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وقد تجسّد ذلك في القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن عام 1967 عقب حرب يونيو، الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها والاعتراف بحق جميع دول المنطقة في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها. ومع تزايد أهمية القضية الفلسطينية باعتبارها جوهر الصراع، بدأت الأمم المتحدة والجمعية العامة في إصدار قرارات تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، ومن أبرزها القرار 3236 لعام 1974 الذي اعترف بحق الفلسطينيين في الاستقلال والسيادة الوطنية. ومع مرور الوقت، أصبح مصطلح “حل الدولتين” أكثر وضوحًا، خصوصاً مع مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991 وما تبع من اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي أسست سلطة فلسطينية انتقالية تمهيداً لحل نهائي بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
وجاء قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر في ديسمبر 2016 ليكرّس هذا التوجّه بشكل صريح، حيث شدّد على عدم شرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، وأكد أن إقامة المستوطنات وتوسيعها يشكّل خرقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ونص القرار على أن الحل العادل والدائم لا يمكن أن يتحقق إلا عبر رؤية الدولتين: دولة إسرائيلية تعيش بأمن وسلام إلى جانب دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود الرابع من يونيو 1967. وتكتسب أهمية القرار من كونه صدر بموافقة أعضاء مجلس الأمن وامتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض، ما أعطاه زخماً سياسياً وقانونياً كبيراً ورسالة واضحة بأن المجتمع الدولي يرى في حل الدولتين الإطار الشرعي الوحيد لتحقيق السلام العادل والدائم.
وعلى مر العقود انعقدت مؤتمرات دولية عديدة لتثبيت هذه الصيغة، منها مؤتمر مدريد في 1991، ومبادرة السلام العربية التي أقرّتها قمة بيروت عام 2002، ومؤتمر أنابوليس عام 2007، حيث تم التأكيد على الالتزام بحل الدولتين. وفي السنوات الأخيرة أكد إعلان نيويورك الصادر عن المؤتمر الدولي لتنفيذ حل الدولتين الذي انعقد في 22 سبتمبر 2025، والذي حظي بتأييد استثنائي من الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 142 صوتًا، الالتزام الدولي الثابت بحل الدولتين كخيار وحيد لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة.
ورغم وضوح المرجعيات الدولية، يواجه تطبيق حل الدولتين على الأرض عقبات بنيوية وسياسية، أبرزها سياسات نتنياهو وحكومته، التي تعد الأشد تطرفاً منذ نشأة إسرائيل، التي ترفض إقامة دولة فلسطينية وتسعى لتقويض أي جهود دولية تسعي نحو تحقيق هذا الهدف. ويضاف إلى ذلك الاستيطان الإسرائيلي المتسارع، إذ لم تكتفِ إسرائيل بالمحافظة على المستوطنات القائمة، بل وسعت العديد منها وحولت البؤر العشوائية إلى تجمعات كبيرة، مما أدى إلى تفتيت الضفة الغربية إلى جزر سكانية خاضعة للسيطرة الإسرائيلية مما يصعب إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة ، إذ ترى الحكومة بقيادة نتنياهو أن الانسحاب إلى حدود 1967 يعرضها لمخاطر جسيمة، خصوصاً بعد تجربة الانسحاب من غزة عام 2005. كما أن التحالفات مع أحزاب يمينية ودينية متشددة تعارض إقامة دولة فلسطينية وتدفع باتجاه ضمّ أجزاء من الضفة الغربية، تجعل الحكومة الإسرائيلية الحالية غير مؤهلة لتكون طرفاً في عملية سلام مجدية
كما تبرز عقبة أخرى خاصه بالقدس، إذ تتمسك حكومة نتنياهو باعتبارها “عاصمتها الأبدية غير القابلة للتقسيم”، بينما يتمسك الفلسطينيون بالقدس الشرقية عاصمة لدولتهم. ومع التوسع الاستيطاني وتهويد أحيائها، تتصاعد التحديات امام امكانيه إيجاد صيغة وسط تضمن تقاسم المدينة أو جعلها عاصمة مشتركة للدولتين.
يضاف الي ما سبق ما شكله الانقسام الفلسطيني بين السلطة في الضفة الغربية وحركة حماس في غزة من عقبة إضافية، أضعفت الموقف التفاوضي الفلسطيني ويثير تساؤلات حول الجهة الشرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني في المفاوضات، ويستفيد الجانب الإسرائيلي من هذا الانقسام لتجميد المفاوضات أو التنصل من الالتزامات.
على الصعيد الدولي، رغم اتساع الإجماع العالمي حيال حل الدولتين ، فإن غياب آليات إلزامية لتنفيذ القرارات الأممية يجعل هذا الإجماع أقرب إلى الرمزية منه إلى قوة فاعلة. فالولايات المتحدة، الوسيط الأكثر تأثيراً، تتبنى سياسات متذبذبة غالباً ما تحرص علي تقديم الدعم السياسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، مما يضعف قدرتها على الضغط لتحقيق تقدم في العملية السياسية، ويتزامن ذلك انشغال باقي القوى الكبرى بأزمات أخرى بما يقلل من أولوية القضية الفلسطينية على اجندتها الدوليه. وهناك أيضاً قضايا الحل النهائي غير المحسومة مثل حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وترسيم الحدود، وتقاسم الموارد المائية، وتمثل تحديات تفاوضية معقدة لم تُحل منذ عقود، ولا يزال كل طرف متمسكاً بمواقفه الجوهرية.
ورغم ما يحيط بحل الدولتين من صعوبات بالغة وتعقيدات متشابكة، سواء المرتبطة بسياسات حكومة نتنياهو المتطرفة واستفحال الاستيطان والوضع المتوتر في القدس، أو الانقسام الفلسطيني الداخلي، أو غياب آلية دولية ضاغطة وفاعلة، فإنه يبقى الصيغة الوحيدة الكفيلة بتوفير الأمن والاستقرار للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، إذ لا يمكن للاحتلال أن يستمر إلى الأبد، كما أن مخططات التهجير والوطن البديل تبدو غير قابلة للتطبيق، في حين أن خيار الدولة الواحدة سيصطدم حتماً بمعوقات جدية ستؤدي إلى تكريس الفصل العنصري ونسف مبادئ العدالة والمساواة.
لذا يستوجب هذا الموقف بروز قيادة إسرائيلية مستنيرة تدرك أن الدعم الغربي غير المشروط ليس مضمونًا إلى ما لا نهاية، وأن مؤشرات تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة على المستوي العالمي قد بدأت في الظهور فعليًا، وفي المقابل فإن خطورة المرحلة تفرض وجود قيادة فلسطينية موحدة قادرة على التعامل بعقلانية وجدية مع التحديات الراهنة، بما يتيح فتح أفق سياسي واقعي يمنح الشعب الفلسطيني فرصة الخلاص من مستقبل غامض ومصير مجهول.
السفير عمرو حلمي