< ملحمة العبور العظيم.. 6 أكتوبر اليوم الذي غيّر وجه التاريخ العسكري
تحيا مصر
رئيس التحرير
عمرو الديب

ملحمة العبور العظيم.. 6 أكتوبر اليوم الذي غيّر وجه التاريخ العسكري

تحيا مصر

في يوم السادس من أكتوبر من عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، وفي لحظة تاريخية محفورة في ذاكرة الأمة، انطلقت شرارة ملحمة العبور العظيم التي أعادت لمصر كرامتها واستردت بها أراضيها المحتلة.
جاءت هذه الملحمة تتويجاً لسنوات من الإعداد والتخطيط الدقيق، حيث تحدت القوات المسلحة المصرية المستحيل واقتحمت أقوى الخطوط الدفاعية في العالم، مجسدة أروع صور البطولة والفداء.
لقد مثل هذا اليوم تحولاً جذرياً في مسار الصراع العربي الإسرائيلي، حيث استعاد الجندي المصري ثقته بنفسه وأثبت للعالم أجمع أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن الأساطير تُحطم بالإيمان والعزيمة، كانت معركة الكرامة التي غيرت موازين القوى في المنطقة وأعادت رسم خريطة السياسة فيها، لتظل ذكراها نبراساً يضيء دروب الأجيال القادمة.

الضربة الجوية المدوية

في تمام الساعة الثانية ظهراً من ذلك اليوم التاريخي، انطلقت الطائرات الحربية المصرية في هجوم جوي مركز ومفاجئ على الأهداف الإسرائيلية في عمق سيناء، محققة عنصر المفاجأة الكامل الذي أصاب العدو بالذهول والارتباك.
عبرت هذه الطائرات على ارتفاعات منخفضة للغاية لتفادي رادارات العدو، مستهدفة المطارات ومراكز القيادة ومحطات الرادار والإعاقة الإلكترونية وبطاريات الدفاع الجوي وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينة في خط بارليف ومصافي النفط ومخازن الذخيرة.
وقد أسفرت هذه الضربة عن شل مطارات العدو الهامة في سيناء مثل مطار المليز ومطار تمادة ومطار العريش حيث عجزت طائرات العدو عن الإقلاع منها، كما تم تدمير مجموعة أخرى من الطائرات وهي رابضة على الأرض. وجاء في تقرير قائد القوى الجوية عقب الهجوم أن الضربة حققت خمسة وتسعين بالمائة من الأهداف الموضوعة، حيث كانت الخسائر محدودة في صفوف القوات المصرية رغم الظروف الصعبة التي واجهتها، لا سيما في مطار الطور قرب شرم الشيخ حيث استشهد ستة طيارين بعد أن فقدوا عنصر المفاجأة بسبب ملاقاتهم أربع طائرات معادية كانت تقوم بدورية اعتيادية.

عبور المستحيل..اقتحام مانع قناة السويس وخط بارليف

انطلقت وابل من نيران المدفعية المصرية لتمطر تحصينات خط بارليف، معلنة بداية عملية العبور الأسطورية التي حطمت كل التوقعات وتحدت كل الحسابات العسكرية التقليدية، حيث اندفع آلاف الجنود المصريين بعزيمة لا تلين نحو قناة السويس، متحدين أعتى مانع مائي في التاريخ العسكري الحديث.
و تحت غطاء ناري كثيف، انتقلت قوارب العبور محملة بالمقاتلين المصريين إلى الضفة الشرقية، بينما بدأت وحدات سلاح المهندسين في فتح الثغرات في الساتر الترابي باستخدام مضخات المياه القوية، مستغلين عنصر المفاجأة الساحق الذي حققوه. لقد صُممت هذه الخطة ببراعة عسكرية فائقة، حيث عبرت القوات على مراحل متتالية، وتمكنت من إقامة رؤوس جسور على الضفة الشرقية وتأمينها في وقت قياسي. وبفضل التخطيط المحكم والتدريب المكثف، تمكّنت وحدات المهندسين من نصب الكباري خلال خمس عشرة دقيقة فقط، لتتحول القناة من حاجز مائي شبه مستحيل إلى جسر للتحرير، في مشهد مهيب أذهل مراقبي الفن العسكري في العالم أجمع.

 دقة التخطيط وإتقان التنفيذ

لم تكن ملحمة العبور العظيم مجرد هجوم عسكري تقليدي، بل كانت نموذجاً للخداع الاستراتيجي والتخطيط العلمي الدقيق الذي استغرق سنوات من التحضير. فقد بدأ الإعداد للخطط الهجومية المصرية عقب تولي الفريق سعد الشاذلي منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة في شهر مايو عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، حيث تم دراسة الإمكانيات الفعلية للقوات المسلحة المصرية ومقارنتها بالمعلومات المتاحة عن قدرات الجيش الإسرائيلي للوصول إلى خطة هجومية واقعية. 
وتمت هذه التجهيزات في ظروف بالغة السرية، حيث اجتمع القادة العسكريون السوريون والمصريون في الإسكندرية سراً خلال يومي الثاني والعشرين والثالث والعشرين من شهر أغسطس عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين للاتفاق على الموعد النهائي للحرب، ليتم بعدها تثبيت يوم السادس من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين موعداً لبداية المعركة المصيرية. واعتمدت الخطة على تحقيق المفاجأة التامة للعدو من خلال اختيار توقيت الهجوم في يوم عيد الغفران اليهودي حيث تكون حالة الاستعداد في أدنى مستوياتها.

تأثير اليوم الأول على الساحة الدولية

أحدث اليوم الأول لحرب أكتوبر تأثيراً بالغاً على الساحة الدولية، حيث قلب الموازين الاستراتيجية التي كانت قائمة منذ حرب حزيران. فقد اهتزت صورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر التي كانت سائدة في الأوساط العسكرية العالمية، وبرزت القوات المسلحة العربية كقوة عسكرية لا يستهان بها. 
وقد أدت هذه التطورات إلى تغيير جذري في سياسات العديد من الدول، حيث بدأت تعيد حساباتها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي. كما أسفرت هذه المعركة عن تحولات عميقة في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، حيث اضطرت الإدارة الأمريكية إلى مراجعة سياستها بشكل كامل. وقد فتحت هذه التطورات الباب أمام خيارات سياسية جديدة، كان أبرزها مفاوضات فض الاشتباك التي مهدت الطريق لاتفاقيات لاحقة. لقد أثبتت معركة العبور أن الحقوق لا تسترد بالمساومات وحدها، بل بالقوة أيضا عندما تكون المساومات عقيمة

 العالم يشهد ببراعة العبور

تجاوزت ردود الفعل الدولية على العبور النطاق الإقليمي إلى العالم بأسره، حيث انقسمت المواقف بين الدهشة والإعجاب من الإنجاز العسكري غير المسبوق. فقد أشاد العديد من الخبراء العسكريين الدوليين بالخطة المحكمة والتنفيذ الدقيق الذي قامت به القوات المصرية، معترفين بأن ما حدث يمثل نموذجاً فريداً في تاريخ الحروب الحديثة. 
وكتبت الصحف العالمية آنذاك عن "الصاعقة التي ضربت الشرق الأوسط" و"المفاجأة الاستراتيجية التي قلبت الموازين". وأعرب عدد من قادة العالم عن تقديرهم للخطوة المصرية الجريئة، بينما حاول آخرون التقليل من شأن الإنجاز. لكن الحقيقة التي أقرها الجميع هي أن المعادلات الاستراتيجية في المنطقة قد تغيرت إلى الأبد، وأن قوة جديدة قد برزت على الساحة الدولية ترفض الاستسلام للواقع المفروض وتصر على استعادة حقوقها المغتصبة. لقد أصبح العبور نموذجاً يُدرس في الأكاديميات العسكرية حول العالم كواحدة من أعظم العمليات العسكرية في التاريخ الحديث.

تمثل ملحمة العبور العظيم علامة مضيئة في تاريخ الأمة العربية جمعاء، حيث تجسدت فيها إرادة الشعوب وقدرتها على صنع المعجزات عندما تتوحد الأهداف وتتضافر الجهود. لقد كانت هذه الملحمة درساً بليغاً في كيفية تحويل الهزائم إلى انتصارات، والإحباط إلى أمل، والضعف إلى قوة. إن قصة العبور ليست مجرد ذكرى نسترجعها كل عام، بل هي منهج حياة يعلمنا أن لا شيء مستحيل عندما نؤمن بقضيتنا ونتسلح بالإرادة والعلم.