التمويل وانسحاب أمريكا.. ملفات عاجلة في انتظار خالد العناني مدير عام اليونسكو
في خطوة تعكس ثقة المجتمع الدولي بخبراته الواسعة في مجال التراث الثقافي والسياسة الدولية، تم انتخاب الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار المصري السابق، مديراً عاماً لمنظمة اليونسكو.
جاء هذا الاختيار بعد ترشيحه من قبل المجلس التنفيذي للمنظمة، الذي يتكون من ممثلي 58 دولة، متوجاً مسيرة مهنية حافلة ساهمت بشكل ملحوظ في إدارة الملف الثقافي المصري.
وقد أظهرت عملية الانتخاب، التي تجري عادة كل ست سنوات، توافقاً دولياً على قدرة العناني على قيادة المنظمة في مرحلة بالغة التعقيد، تواجه فيها تحديات تمويلية وسياساتية متعددة. وبهذه الخطوة، يصبح العناني على عتبة تولي مسؤولية واحدة من أهم المنظمات الدولية المتخصصة في بناء جسور السلام عبر التعاون الفكري والثقافي بين الأمم.
نشأة اليونسكو التاريخية.. من أنقاض الحرب إلى بناء السلام
ترجع جذور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إلى العام 1945، عندما وقّع ممثلو سبع وثلاثين دولة دستورها التأسيسي استجابةً لدروس الحرب العالمية الثانية المدمرة.
وقد دخل هذا الدستور حيز التنفيذ في الرابع من نوفمبر 1946، بعد أن أودعت الدولة العشرون وثيقة التصديق عليه.
جاء تأسيس اليونسكو خلفاً للجنة التعاون الفكري التابعة لعصبة الأمم، التي تأسست عام 1922 وضمت شخصيات بارزة مثل ألبرت أينشتاين وماري كوري. لكن الحرب العالمية الثانية أوقفت أعمال تلك اللجنة، لتحل محلها اليونسكو بفلسفة جديدة تؤمن بأن السلام يجب ألا يرتكز فقط على التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول، بل أيضاً على التعاون الفكري والمعرفي بين الشعوب. وكان أول مدير عام للمنظمة هو جوليان هكسلي، الذي انتخب في المؤتمر العام الأول الذي عقد في الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر 1946.
الهيكل التنظيمي.. 3 أعمدة تقود التعاون الدولي
تعمل اليونسكو عبر هيكل حوكمة دقيق يتألف من ثلاثة أعمدة رئيسية. يتمثل الأول في المؤتمر العام، وهو أعلى هيئة لصنع القرار وتجتمع كل عامين، وتضم ممثلين عن جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 194 دولة،
وتتمثل مهمته الأساسية في تحديد سياسات المنظمة واعتماد برامجها وميزانياتها. بينما يمثل المجلس التنفيذي العمود الثاني، وهو هيئة تنفيذية مكونة من 58 دولة تنتخبهم الجمعية العامة، وتجتمع مرتين على الأقل كل عامين لوضع جدول أعمال المؤتمر العام ومراقبة التنفيذ الفعال للبرامج. أما العمود الثالث فهو الأمانة العامة، التي يقودها المدير العام وتضم حوالي 2300 موظف من 170 دولة، وهي المسؤولة عن التنفيذ العملي للبرامج والمشاريع عبر المكاتب الميدانية المنتشرة في أنحاء العالم.
القيادة.. تاريخ من الإنجازات والتحديات
يتم انتخاب المدير العام لليونسكو من قبل المؤتمر العام بناء على ترشيح المجلس التنفيذي، ويمتد لست سنوات، مع إمكانية إعادة انتخابه لولاية ثانية. وعلى مدى تاريخ اليونسكو، تعاقب على منصب المدير العام 11 شخصية، كان من بينهم فريدريكو مايور من إسبانيا، وكوتشيرو ماتسورا من اليابان، وإيرينا بوكوفا من بلغاريا، وأودري أزولاي من فرنسا.
وقد تركت كل من هذه الشخصيات بصمتها على مسار المنظمة، حيث وسع ماتسورا من جهود الحفاظ على التراث العالمي، بينما ركزت بوكوفا على التعليم والمساواة بين الجنسين، وعملت أزولاي على استعادة وحدة المنظمة بعد انسحاب بعض الدول الكبرى.
المقر الرئيسي.. تحفة معمارية ترمز للسلام
يقع المقر الرئيسي لليونسكو في باريس بفرنسا، وتحديداً في مبنى ميزون دي ليونيسكو التاريخي الذي يقع على رقم 7 في ساحة فونتينوي.
وتم تدشين هذا المبنى في 3 نوفمبر 1958، وهو نتاج جهد معماري مشترك بين ثلاثة من أبرز المهندسين في القرن العشرين: برنارد زيرفوس من فرنسا، ومارسيل بروير من المجر، وبيير لويجي نيرفي من إيطاليا. وقد أشرف على التصاميم لجنة دولية من خمسة مهندسين معماريين مشهورين. ويتمتع المقر بصفة قانونية خاصة، حيث يستفيد من اتفاقية المقر الموقعة بين اليونسكو وفرنسا عام 1954، والتي تمنحه امتيازات وحصانات دبلوماسية، وذلك مقابل إيجار رمزي تدفعه المنظمة للحكومة الفرنسية.
صلاحيات المدير العام.. بين التنفيذ والتمثيل الدولي
تمتد سلطات المدير العام لليونسكو لتشمل دوراً تنفيذياً وإدارياً محورياً، حيث يعتبر المسؤول الأول عن تنفيذ القرارات التي يتخذها المؤتمر العام والمجلس التنفيذي.
كما يتحمل مسؤولية إدارة الأمانة العامة والموظفين، وإعداد مقترحات البرامج والميزانيات، وتمثيل المنظمة عالمياً. ورغم أن سلطته تنفيذية في جوهرها ولا تشمل صلاحيات تشريعية، إلا أن نفوذه الفعلي يتجلى من خلال قدرته على توجيه أولويات المنظمة واقتراح المبادرات الاستراتيجية التي تشكل خريطة طريق عمل اليونسكو في مجالات التربية والعلوم والثقافة حول العالم.
الإنجازات العالمية.. بصمات لا تمحى في خدمة الإنسانية
أسهمت اليونسكو بشكل بالغ التأثير في المجتمع الدولي عبر برامجها ومبادراتها المتعددة. ففي مجال الثقافة، أطلقت المنظمة في ستينيات القرن الماضي الحملة الدولية لإنقاذ معابد النوبة، التي نجحت في نقل معابد أبو سمبل التاريخية وإنقاذها من الغرق، مما مهد الطريق لاعتماد اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي عام 1972 وإنشاء قائمة التراث العالمي التي تضم اليوم أكثر من ألف موقع. وفي مجال التعليم، حيث قادت اليونسكو منذ تأسيسها حركة عالمية لمكافحة الأمية وتعميم التعليم الأساسي، حيث أوصت عام 1948 بجعل التعليم الابتدائي مجانياً وإلزامياً وعالمياً، ونظمت مؤتمر "التعليم للجميع" في جومتين بتايلاند عام 1990.
التحديات المعاصرة.. مستقبل المنظمة في عالم متغير
تواجه اليونسكو في الوقت الراهن تحديات جسام، أبرزها الانسحاب المتكرر للولايات المتحدة وإسرائيل من المنظمة لأسباب سياسية، وما يرتبط بذلك من عجز تمويلي كبير.
كما تتعرض المنظمة بين الحين والآخر لانتقادات تتعلق بتبنيها قرارات يرى فيها البعض تحيزاً ضد بعض الدول، مما يهدد طابعها الجامع.
ورغم هذه التحديات، تظل اليونسكو منبراً دولياً فريداً للتعاون الفكري والثقافي، وتمثل أداة لا غنى عنها في الحفاظ على التراث الإنساني المشترك وتعزيز أسس السلام من خلال بناء عقول البشر، وهو ما يجعل قيادة جديدة مثل قيادة الخالد العناني أمام مسؤولية تاريخية لإعادة توحيد الصف الدولي وتجديد دور المنظمة الحيوي في ظل عالم متعدد الأقطاب يعج بالصراعات والتحديات الوجودية.