عاجل
الخميس 09 مايو 2024 الموافق 01 ذو القعدة 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

 ياسر حمدي يكتب: الصراع الإثيوبي.. وسد النهضة

تحيا مصر

مع وصول الصراع القبلي المسلح في إثيوبيا مرحلة حرجة قد تفضي إلى سقوط الحكومة المركزية في أديس أبابا، وبالنظر لإرتباط أزمة سد النهضة بالتطورات الإثيوبية الراهنة، والتي تطورت لحد حرب أهلية وشيكة، نجد أن هناك ارتباطًا شبه عضوي بين سيناريوهات الأزمتين «أزمة الحرب وأزمة السد»، بما قد يدعم الموقف المصري.

فمن ناحية يدفع الصراع الأهلي نحو ضبط عملية تشييد السد وملئه وتشغيله، ومن ناحية أخرى فإن الأهداف «السياسية والإستراتيجية» من السد تستوجب وجود سلطة قوية ومستقرة، وفي حال غيابها ستقل أخطار السد على مصر إلى حد كبير، ورغم الضغط الدولي على أديس أبابا في صراعها مع القوميات المتحدة لإسقاط رئيس الوزراء، فإنه من المستبعد أن تجبر الفوضى حكومة أبي أحمد على العودة إلى طاولة المفاوضات بشأن السد بعقلية أقل عناداً.

السؤال: هل من مصلحة مصر التدخل بالصراع الإثيوبي؟.. والإجابة المؤكدة على هذا السؤال أن مصر ليست طرفًا في الأزمة الإثيوبية الداخلية، وليس من مصلحتها التدخل أو حتى التعليق عليها لكونها شأنًا داخليًا، لأنه من ثوابت السياسة المصرية عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى، لكنّه ومن المؤكد أن القاهرة تراقب الموقف عن كثب؛ بالنظر لإرتباط أزمة السد بالتطورات الإثيوبية الراهنة، بينما يرجع تأجيج الصراع الأهلي في إثيوبيا إلى عوامل متراكمة، كما حدث في فترات سابقة مع جماعات عرقية أخرى تتنافر فيما بينها، فإنه ليس من الضروري أن تتدخل مصر مباشرةً في التطورات الإثيوبية لكي تحصل على فوائد، وذلك لأن قدرات الدولة الإثيوبية أضعف من أن تمكنها من الدخول في حرب أهلية وتطوير سد النهضة في وقت متزامن.

وهنا نصل لسؤال مهم يطرح نفسه بقوة على الساحة السياسية المصرية وهو: ما هي مدى إستفادة القاهرة مما يجري في إثيوبيا؟.. والحقيقة فإن الدولة المصرية تستفيد بشكل مباشر من تطورات الأزمة الإثيوبية، وذلك لأن الحرب الأهلية والصراعات الداخلية الإثيوبية الحالية تقوم بعملية ضبط لأزمة السد؛ إذ أن معدلات التقدم في البناء باتت ضعيفة، إضافةً إلى أن طبيعة العلاقات الإثيوبية مع بقية الدول الأفريقية لم تعد كما كانت، في ظل تزايد حدة الصراع الدائر بها، الأمر الذي يساعد القاهرة في إعادة ترتيب أوراقها في منطقة القرن الإفريقي والقارة بأكملها بشكل عام، كما أن التوترات الأمنية بين الحكومة المركزية وتحالف الأورومو مع قوات تحرير شعب التيجراي، فضلًا عن تحالف «الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفيدرالية الإثيوبية» المكون من 9 جماعات إثيوبية المناهض للحكومة، من المتوقع أن تطول عملية الصراع المسلح لفترات زمنية متباعدة، مما يؤثر بالسلب على إستقرار الوضع في إثيوبيا من الناحيتين السياسية والإقتصادية، الأمر الذي يجبرهم على التراجع عن الكثير من خططهم الإستثمارية بما فيها إستكمال بناء السد.

وبالوصل إلى الإجابة على السؤال السابق نجد أنفسنا أمام السؤال الأهم وهو: هل يؤثر النزاع الإثيوبي على مفاوضات السد؟.. قولاً واحدًا نعم سوف تتأثر المفوضات بالسلب والإيجاب على حسب السيناريو الذي ستصل إليه أديس أبابا عقب إنهاء الأزمة الحالية من الصرعات المسلحة، فالتحولات الجارية حاليًا في إثيوبيا ستؤثر بالطبع على ملف سد النهضة، فأحد السيناريوهات المرجحة حاليًا هو خروج أبي أحمد من المشهد، وهو ما سيعني بالضرورة درجة أعلى من المرونة في التعامل مع الملف، لأنه في واقع الأمر يوجد إرتباط شبه عضوي بين سيناريوهات أزمة السد مع سيناريوهات الوضع الإثيوبي في الداخل، ويرجع ذلك لهذه الأسباب الثلاث:- أولاً: لأن حالة الفوضى أثرت بالفعل على الوضع الإقتصادي لإثيوبيا، مما يثير تساؤلاً حول قدرتها على الإستمرار في عملية الملء الثالث لبحيرة السد وما بعدها.

ثانيًا: في ظل حالة الدفاع عن النفس والتعبئة والتحريض على القتال من جانب الحكومة، هل ستكون هناك أولوية لديها في الإستمرار في عملية بناء وتعبئة وتعلية السد، وهذا أمر مشكوك فيه.. ثالثًا: ما سيتمخض عن الأزمة الأهلية، هل ستسقط حكومة أبي أحمد؟، وهل تستطيع الأطراف الأخرى أن تؤسس صيغة جديدة لنظام الحكم والحفاظ على كيان الدولة؟، أم ستكون هناك صعوبة في الإتفاق على مثل هذه الصيغة في ظل تعارض المطالب والطموحات للأقاليم والإثنيات المختلفة؟، وبالتالي ستكون هناك حالة من الاضطراب والفوضى لمدى غير معلوم، وبناء عليه، فإن غياب السلطة القوية والمستقرة في أديس أبابا يعني تراجع أهمية السد وأهدافه السياسية والإستراتيجية، وتقليل مخاطره على مصر.

وعموماً فإن الشعوب الإثيوبية ذات صلة تاريخية بمصر، لا نستطيع أن نتخيل أن الموقف سيستمر كما هو في غياب أبي أحمد، وعلى الرغم من أن أبي أحمد لم يكن البادئ في بناء سد النهضة، إلا أنه كان الأكثر تشددًا، والأكثر تعطيلًا لأي تفاوض، وما يجري الآن يعني أن السيناريوهات المقبلة لملف سد النهضة قد تكون أفضل من الوضع الحالي، خاصةً أن مصر تبدي تفهمًا ومرونة كافيين.

ومن المؤكد أن التيجراي كانوا يتفاوضون حول سد النهضة، رغم أن التفاوض كان به مراوغة، ولكن هذه طبيعة أي مفاوضات، أبي أحمد جاء ينكر على مصر والسودان حقوقهما في مياه النيل، فما نشهده بالفعل ليس مجرد تعثر في المفاوضات، أو خلافات، إنما تجميد للملف حتى يحقق أبي الأمر الواقع.

لكن لن ننسى أن الدولة الإثيوبية كونت ما نراه اليوم من حدود في العهد الاستعماري، عبر ضم أمم متعددة لم تكن خاضعة يومًا لحكم إثيوبيا، منهم الأرومو وهم غالبية السكان، وبني شنقول، وهو الإقليم الذي يضم سد النهضة، ومنطقة العفر في الشرق بجوار جيبوتي وإريتريا، والإقليم الصومالي، واقترفت في هذه المناطق جرائم مشهودة في مراحل مختلفة، ولعل الصراعات التي فجرها أبي أحمد الحاصل على نوبل للسلام وممارسته سياسات قمعية لم يمارسها مانجستو ولا الإمبراطور هيلاسلاسي ولا زيناوي، وأدخل البلد في صراع كبير، تجعل الوضع غير قابل الإستمرار بنفس الصيغة حاليًا.

وبالنسبة لسد النهضة فسعة خزانه تبلغ 74 مليار متر مكعب وهي تساوي حصتي مصر والسودان معاً، وهو ما يتجاوز هدف توليد الكهرباء ويكشف سياسة أثيوبيا التي تهدف لتوطين الأنهار الدولية وتحويلها لأنهار وطنية إثيوبية، وهو ما حدث مع كينيا، حيث بنت إثيوبيا أربعة سدود على نهر أومو، وأدى ذلك إلى تجفيف بحيرة توركانا وإفراغها من سكانها، وهجر الصيادون الإقليم، نفس الشيء فعلته إثيوبيا مع نهري الصومال، جوبا وشبيلي، إن كينيا والصومال وجيبوتي تضررت من سياسة إثيوبيا المائية؛ وهذا ما حاوله أبي أحمد مع مصر، ولكن الأمر يختلف، فكينيا دولة تمتلك كميات كبيرة من الأمطار وكذلك الصومال في جزءها الجنوبي، أما في مصر والسودان الوضع يختلف، فمصر تقع في إقليم قاحل، وكذلك الحال شمال السودان، فنهر النيل بالنسبة للبلدين له أهمية مختلفة.

والتطورات الحالية جعلت الوضع الآن يتغير بسرعة، فالولايات المتحدة التي دعمت أبي أحمد، هي نفسها الآن التي ترعى اتفاقًا للجماعات المعارضة التسع لإعادة الفيدرالية لما كانت عليه، وإعادة المبدأ الذي وصل أبي أحمد للسلطة على أساسه وهو إجراء استفتاء في إقليم التيجراي، وفي حالة إستعادة هذا المبدأ يصعب عودة إثيوبيا لما كانت عليه، وغالباً لن يكون هناك أبي أحمد ولا الأمهرة، فالأمهرة اقترفوا جرائم فظيعة في إقليم التيجراي، وكذلك جرائم في إقليم بني شنقول وإقليم أورميا، وهو الإقليم الذي ينتج أغلب الإنتاج الزراعي في إثيوبيا.

وبتالي فإن الوضع الإثيوبي الحالي ينتج عنه حالاتان (حالة الإطاحة بأبي أحمد - وحالة استتباب الوضع) ففي الحالة الأولى «حالة الإطاحة»: في هذه الحالة، نتوقع عدم قدرة جبهة تحرير شعب تيجراي على إدارة البلاد؛ نظرًا لتغير الظروف الداخلية والإقليمية عن الفترة التي حكمت فيها إثيوبيا بداية تسعينيات القرن الماضي؛ كما سيكون من الصعوبة بمكان الإستقرار على شخص آخر حال سقط رئيس الوزراء.

وبناء على هذه الرؤية، فإن سيناريو سقوط أبي أحمد سيكون إيجابيًا لمصر؛ لتراجع أهمية السد في مقابل أهمية الحفاظ على الدولة؛ طبقًا لما ستسفر عنه صيغة الحكم؛ ومن الأطراف الفاعلين فيها، وهل تكون الدولة فدرالية أم يسودها نزاع بين أطراف تطالب بحق تقرير المصير.. ومن هنا فإن تطور بناء السد يعتمد على من يحكم إثيوبيا، إذ أن بناءه كاملًا يتطلب سنوات، في ظل تعدد الباحثين عن السلطة بين القوميات الكبرى في البلاد، خاصة الأورومو والتيجراي والأمهرة.

أما في حالة «استتباب الوضع»: وهو سيناريو «فشل الصراع الحالي»، فالمتوقع أنه لو استتب الأمر لأبي أحمد وهو أمر مستبعد إلى حد كبير فإن إدارة ملف سد النهضة والمفاوضات مع مصر لن تتغير، لأن موقف حكومة أديس أبابا معروف منذ البداية، وهو التفاوض في حلقة مفرغة، وأنه في ظل الوضع الحالي فإن أبي أحمد لن يستطيع حلحلة الصراع أو تنفيذ أفكاره، بينما تبقى الضمانات المرتبطة بجريان مياه النيل أهم ما تبحث عنه القاهرة بعيدًا عن الصراع الداخلي، وهو ما قد تستفيد منه بشكل غير مباشر.

لكن يبقى على القاهرة الأخذ في الإعتبار كل السيناريوهات المتوقعة وغير المتوقعة كي تصل في نهاية المطاف لإتفاق قانوني ملزم لكل الأطراف بشأن السد، وغلق هذا الملف الشائك بالنسبة لمصر والمصريين والسودان وإثيوبيا للأبد، وبما لا يسمح فيما بعد لأي طرف من الأطراف إستغلاله تجاه الأخر، كما تفعل إثيوبيا الآن.

تابع موقع تحيا مصر علي