عاجل
السبت 06 ديسمبر 2025 الموافق 15 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

أوروبا بين مخاوف الأسلمة ومتطلبات إدارة التنوع الديني والثقافي

تحيا مصر

تتسم العلاقة بين أوروبا والإسلام بتعقيد تاريخي واجتماعي وسياسي عميق، يتداخل فيه إرث الاستعمار الأوروبي، وامتداد التدخلات العسكرية الحديثة في الشرق الأوسط، والتحولات الديموغرافية الناتجة عن موجات الهجرة، وما يثيره هذا التداخل من نقاشات لا تنقطع حول الهوية الأوروبية وحدود التعددية الدينية والثقافية، والتخوف مما يُوصف في بعض الأوساط بأنه “أسلمة أوروبا”. وقد استُخدمت هذه المخاوف في كثير من الأحيان كأداة سياسية لصياغة رؤى جديدة حول الأمن والهجرة والهوية.

لقد أدت موجات الهجرة الكبيرة القادمة من الدول الإسلامية، نتيجة للتدخلات العسكريه الغربيه في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا، إلى انتقال ملايين الأفراد إلى أوروبا بحثًا عن الأمان والاستقرار، الأمر الذي فرض على المجتمعات الأوروبية تحديات تتعلق بكيفية التعامل مع الحضور المتزايد للإسلام والمسلمين في المجال العام. وعلى الرغم من أن الغالبية الساحقة من المسلمين الأوروبيين مندمجون في النسيج الاجتماعي، وتشارك بفاعلية في الحياة الاقتصادية والتعليمية والثقافية، فإن الخطاب الإعلامي والسياسي غالبًا ما يقدّم صورة مشوشه تختزل الإسلام في رموز بصرية كالحجاب والنقاب، أو في فهم مغلوط لبعض النصوص الدينية، مع ربط آلي بين المسلمين والعنف أو الإرهاب. ويؤدي هذا الاختزال إلى تعزيز الصور النمطية وإضعاف فرص الاندماج الحقيقي، رغم أن معدلات الجريمة والتطرف بين المسلمين لا تختلف إحصائيًا عن غيرهم حين تُقاس بصورة علمية موضوعية.

وفي المقابل، تحظى اليهودية في أوروبا بحماية قانونية وسياسية متجذّرة في الوعي الجمعي الأوروبي بسبب الإرث التاريخي للمحرقة، إذ تسن معظم الدول الأوروبية قوانين صارمة تجرّم معاداة السامية، بينما لا توجد تشريعات مماثلة تجرّم الإسلاموفوبيا بذات القوة والوضوح، وهو ما يعكس تفاوتًا واضحًا في معايير الحماية القانونية والحقوقية بين الأديان . ويتجلى هذا التفاوت في الخطاب السياسي الأوروبي وفي سلوك الحكومات تجاه قضايا الشرق الأوسط، حيث يجري التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين بقدر كبير من الحذر والانتقائية، بينما تُواجَه أي إساءة لليهودية برد فعل رسمي سريع وحاسم. ويبرز ذلك في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 15 مارس 2024 بشأن مكافحة الإسلاموفوبيا، حيث امتنعت دول كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وهولندا والدنمارك والسويد عن التصويت، رغم تصويت الولايات المتحدة لصالحه، وهو ما يعكس حساسية أوروبية مفرطة تجاه أي مبادرة قد تُفهم على أنها موازية لحماية اليهودية.

ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدور الذي تلعبه المصالح الإسرائيلية في صياغة هذا المشهد المعقّد، إذ تعمل الدوائر السياسية والإعلامية المرتبطة بإسرائيل، بصورة مباشرة أو عبر شبكات الضغط والتأثير، على تكريس سرديات تُبرز الإسلام والمسلمين بوصفهم مصدر تهديد دائم للغرب. ويأتي هذا الخطاب في إطار استراتيجية تهدف إلى إبقاء إسرائيل في موقع “الشريك الأمني الضروري” لأوروبا، من خلال تصوير الشرق الأوسط كفضاء مضطرب تُقدَّم فيه إسرائيل بوصفها واحة استقرار ديمقراطي وسط محيط إسلامي يُصوَّر على أنه غير قابل للاندماج مع النموذج الغربي. ويتقاطع هذا التوجه مع الخطابات الشعبوية داخل أوروبا، حيث تستثمر بعض الجهات الإسرائيلية في دفع المخاوف الأوروبية من الإسلام والهجرة، بما يخدم مصالحها في تأمين دعم سياسي أوروبي مستمر، ويُبعد الأنظار عن الانتهاكات التي تمارسها في الأراضي الفلسطينية عبر إشغال الرأي العام الأوروبي بخطابات الخوف الأمني والديني.

ويتداخل هذا المشهد كذلك مع تأثير الصهيونية المسيحية في أوروبا، وهي تيارات دينية وسياسية داخل بعض الكنائس والدوائر المحافظة تؤمن بأن دعم إسرائيل واجب ديني وحضاري، وترى في عوده اليهود الي فلسطين تحقيقًا لنبوءات توراتية. ولم يعد هذا التأثير مقتصرًا على المجال اللاهوتي، بل امتد ليشكل روايات سياسية تربط بين الإسلام والتهديد الأمني، وتضع إسرائيل في موقع الحليف الطبيعي للحضارة الغربية. وقد انعكس هذا التوجه في خطاب الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا، ومنها حزب الحرية في هولندا، وحزب البديل من أجل ألمانيا، والتي تتخذ موقفاً  يربط بين الهجرة الإسلامية وتراجع الهوية الأوروبية، مطالبة بتقييد الرموز الدينية الإسلامية في المجال العام، من الحجاب إلى بناء المساجد، بل وتوظيف قراءات مغلوطه لبعض النصوص الدينيه لتبرير سياسات أمنية صارمة.

وقد شهدت هولندا خلال العقد الأخير تشريعات تقيد ارتداء النقاب في الأماكن العامة، بينما تصاعد الخطاب المعادي للهجرة في ألمانيا وفرنسا عقب موجة اللاجئين السوريين عام 2015، حيث استُخدمت أحداث فردية معزولة لتعميم صورة نمطية حول الإسلام كتهديد ثقافي وأمني. وأصبح الخوف من الإسلام والهجرة جزءًا من الحملات الانتخابية، يوظَّف في بناء سرديات تستنهض المخاوف المجتمعية وتكسب شرائح من الناخبين القلقين على ما يرونه “هوية أوروبية متآكلة”.

وعلى الجانب الآخر، تشير الأبحاث إلى أن المسلمين في أوروبا يرفضون عمومًا الممارسات المتطرفة أو الانعزالية، ويعيشون وفق منظومة قيمية وقانونية منسجمة مع المجتمعات التي ينتمون إليها، ويسهمون بفاعلية في الاقتصادات الأوروبية، إذ تُظهر الإحصاءات ارتفاع مستوى التعليم والتوظيف بين الجيلين الثاني والثالث مقارنة بجيل المهاجرين الأول. وتؤكد هذه المعطيات أن ربط الإسلام بالعنف أو الانعزال ليس إلا بناءً خطابياً لا يعكس الواقع، ويستدعي ضرورة إعادة النظر في تناول الإعلام والسياسة لقضايا المسلمين.

ويتقاطع هذا الواقع كذلك مع عقدة الذنب التاريخية الأوروبية تجاه المحرقة، والتي انعكست خصوصًا في ألمانيا على شكل سياسات متحفظة في انتقاد إسرائيل، حتى في حالات الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي. فقد شهدت عدة مدن ألمانية استخدامًا مفرطًا للقوة من قبل قوات الامن الالمانيه ضد المتظاهرين المنددين بحرب الاباده الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى اتساق خطاب ألمانيا حول الديمقراطية وحقوق الإنسان مع ممارساتها على أرض الواقع. وينطبق الأمر بدرجات مختلفة على دول أوربيه اخري التي يُلاحظ فيها وجود فجوة بين القيم المعلنة ورغبة الحكومات في تجنب الصدام السياسي مع إسرائيل.

ويضاف إلى ذلك الرفض الأوروبي المستمر لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، رغم عضويتها المحورية في حلف الناتو، وهي حالة يصعب فصلها عن البعد الديني والثقافي. ففي حين تُطرح اعتبارات سياسية واقتصادية في تفسير هذا الرفض، فإن العامل الثقافي المتمثل في الهوية الإسلامية لتركيا يظل حاضراً بقوة في الرأي العام الأوروبي، الذي يُبدي تخوفًا من أي توسع قد يغير التوازن الديموجرافي داخل الاتحاد، وهو ما يعكس استمرار النزعات الثقافية والدينية في التأثير على السياسات الأوروبية.

وفي مواجهة هذه التحديات، تبرز مبادرات الحوار بين الأديان كخطوات تهدف إلى تخفيف التوترات، مثل الوثيقة المشتركة التي وقعها شيخ الأزهر والبابا فرانسيس في 4 فبراير 2019، والتي  عُرفت باسم وثيقة الأخوّة الإنسانية. وقد هدفت هذه الوثيقة إلى تعزيز قيم التعايش المشترك وإعادة صياغة العلاقة بين الإسلام والمسيحية على أسس تقوم على الاحترام المتبادل، ورفض العنف، ونبذ خطاب الكراهية، وإعلاء كرامة الإنسان وقد أكدت الوثيقة أن الأديان جميعها لا تدعو إلى الصراع أو الصدام، بل إلى السلام والمحبة. ودعت إلى حماية دور العبادة، وترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة، ومواجهة التطرف بجميع أشكاله. كما شددت على أهمية الحوار الصادق كطريق لبناء عالم أكثر عدلاً وسلامًا، يقوم على التعاون بين البشر بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو ثقافتهم والتي تمثل محاولة جادة لإعادة صياغة العلاقة بين الإسلام والمسيحية على أسس الاحترام المتبادل ونبذ العنف

وتكشف الأطر التحليلية الحديثة، سواء المتعلقة بالتصورات الاجتماعية أو بدراسات الهجرة والسياسات العامة أو بتحليل خطاب اليمين الشعبوي، عن كيفية تشكل المواقف الأوروبية من الإسلام بوصفها نتاجًا لتفاعل معقّد بين التاريخ والسياسة والإعلام والهوية. وتؤكد هذه الأطر ضرورة التفريق بين النقد السياسي المشروع للسياسات وبين التعميمات الدينية التي تستهدف المجموعات بأكملها، بما يسمح بوضع سياسات أكثر عدلاً وموضوعية في مجالات الهجرة والاندماج.

وتشير مراجعة الأدبيات والدراسات إلى أن معالجة التحديات المرتبطة بالإسلام والهجرة تستلزم إعادة بناء مقاربات إعلامية وسياسية قادرة على التمييز بين الظواهر الفردية والأنماط المجتمعية، وتستدعي كذلك مراجعة شاملة للمواقف الأوروبية من الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بعيدًا عن تأثير عقدة الذنب التاريخية، وبما يضمن التزامًا حقيقيًا بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.

وعليه، فإن مستقبل أوروبا في مواجهة التعددية الدينية والثقافية سيعتمد بدرجة حاسمة على قدرتها على التحرر من عقدة الذنب التاريخية وتجاوز منطق الخوف السياسي الذي كثيرًا ما يوجّه النقاشات المرتبطة بالهجرة والإسلام والاندماج. ويتطلّب هذا التحول إعادة صياغة السياسات والممارسات المؤسسية على نحوٍ يعترف بالتنوع الديني والثقافي بوصفه عنصرًا بنيويًا في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، لا تحديًا طارئًا.

كما يستلزم فهمًا أعمق للجذور التاريخية والسياسية لحركات الهجرة، وربط ذلك بالقيم الأوروبية المعلنة في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة الشاملة، بما يضمن تقليل الفجوة بين المبادئ المعلنة والممارسة الفعلية. ومن شأن هذا النهج أن يمهّد الطريق أمام تشكّل نموذج أوروبي جديد للتعايش، قائم على الاحترام المتبادل والعدالة، وقادر على تحويل التحديات الراهنة إلى فرص للتجديد الاجتماعي والثقافي والسياسي. وفي النهاية، فإن تبنّي هذا النموذج سيُسهم في تعزيز استدامة القيم الإنسانية على المدى الطويل، وفي حماية السلم الاجتماعي داخل أوروبا وخارجها

تابع موقع تحيا مصر علي