عاجل
السبت 13 ديسمبر 2025 الموافق 22 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

تحالف يتغيّر: مستقبل العلاقات الأميركية–الأوروبية في ظل التحديات الجيوسياسية الراهنة

تحيا مصر

تشهد العلاقات بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي لحظة فارقة تتجاوز في حدّتها كل ما عرفته العلاقات بين شطري الاطلنطي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فالمسار التصادمي الذي بدأ تدريجياً في التصاعد مؤخراً ، على وقع الخلافات حول الهجرة والمناخ والتجارة وأكرانيا والدفاع المشترك، انفجر هذه المرة في صورة مواجهة سياسية وإعلامية علنية، بعدما انتقلت التباينات من مستوى الاختلاف في الرؤى والمصالح إلى مستوى الصدام المباشر الذي أدرجته واشنطن رسمياً ضمن استراتيجيتها للأمن القومي، إذ مثّلت الغرامة الضخمة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على منصة X المملوكة لإيلون ماسك—والبالغة 140 مليون دولار—المفجّر الذي أخرج الصراع إلى العلن، لكنها في جوهرها لم تكن سوى حلقة عابرة في مسار أعمق وأكثر تعقيداً يتصل بكيفية رؤية الولايات المتحدة للقارة الأوروبية وهوية النظام الدولي نفسه.

ورغم أن الخلاف مع ماسك بدا في ظاهره فنياً يتعلق بشفافية الإعلانات وحماية البيانات، فإنه تحوّل بسرعة إلى اختبار سياسي غير مسبوق لطبيعة العلاقة بين واشنطن وبروكسل. فقد اعتبرت الجهات التنظيمية الأوروبية أن المنصة ضللت المستخدمين وحجبت معلومات أساسية، ومنعت الباحثين من الوصول إلى البيانات العامة، في حين ردّ ماسك بنبرة هجومية غير مألوفة، متهماً الاتحاد الأوروبي بفرض “استبداد بيروقراطي” يخنق حرية التعبير ويسيء استخدام أدوات التنظيم الرقمي لأغراض سياسية. وشنّ حملة واسعة عبر منصته تحت وسم ‎#AbolishTheEU، لتتحول القضية إلى صراع حول القيم والهوية السياسية في أوروبا أكثر من كونها خلافاً حول قواعد التكنولوجيا.

وسرعان ما دخلت واشنطن على الخط؛ إذ اعتبر مسؤولون أميركيون بارزون أن الغرامة تمثل “هجوماً على التكنولوجيا الأميركية”، حيث دعا السيناتور تيد كروز إلى فرض عقوبات على الاتحاد الأوروبي في خطوة تتجاوز كل الأعراف المستقرة بين الحلفاء. وترافق ذلك مع تصريحات مباشرة من ترامب وصف فيها أوروبا بأنها “قارة متدهورة” و”ضعيفة” و”تدمّر نفسها”، وهو خطاب يشي برؤية جديدة تتعاطى مع أوروبا بوصفها عبئاً سياسياً واقتصادياً، لا شريكاً استراتيجياً له مكانة ثابتة في معادلة القيادة الغربية.

وفي حقيقه الأمر لم تولد هذه المواجهة من فراغ، بل جاءت امتداداً لمنعطف عميق كشفته «استراتيجية الأمن القومي» الأميركية الجديدة، التي شكّلت قطيعة فكرية وسياسية مع تقاليد السياسة الأميركية تجاه أوروبا. فبعد أن كانت القارة—على مدى سبعة عقود—الركيزة الأساسية للشراكة الليبرالية بين شطري الاطلنطي ، أعادت الاستراتيجية تعريفها باعتبارها ساحة لإعادة التشكيل السياسي، وليست شريكاً موازياً في صياغة النظام الدولي. ووضعت الوثيقة في صلب رؤيتها ما تسميه «مخاطر محو الحضارة»، the risks of civilizational erasure  وهو مفهوم مشحون بالإيحاءات الثقافية والأيديولوجية، استُخدم لتبرير قراءة أميركية تعتبر أن التحدي الحقيقي الذي تواجهه أوروبا لا يرتبط بضعف الإنفاق الدفاعي أو التباطؤ الاقتصادي، بل بانحراف أيديولوجي أدى—وفق هذا المنظور—إلى تآكل الهوية الثقافيه وتراجع القدرة على الصمود أمام التحولات الديموجرافية والتغيرات الثقافية.

وتذهب الوثيقة أبعد من ذلك، إذ تقترح ممارسة تأثير أميركي مباشر داخل المجتمعات الأوروبية نفسها بهدف دعم القوى القومية واليمينية والشعبوية المناوئة لبروكسل. ويعدّ هذا تطوراً غير مسبوق في تاريخ العلاقات عبر الأطلنطي ي؛ فهو يشير إلى انتقال واشنطن من مبدأ “الشراكة بين الحلفاء” إلى مبدأ “إعادة تشكيل الداخل الأوروبي” وفق رؤية تتجاوز المصالح التقليدية إلى ما يشبه مشروعاً لإعادة هندسة البنى السياسية الأوروبية من الداخل. وهو تطوّر يمثل انحرافاً جوهرياً عن القاعدة التي حكمت العلاقات بين شطري الاطلنطي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تقوم على احترام السيادة السياسية للحلفاء والنظر إلى أوروبا ككتلة واحدة لها وزنها المؤسسي ونظامها القيمي الخاص.

وقد وجدت موسكو في هذا التحول فرصة استراتيجية كبرى. فبالنسبة للكرملين، يعكس النهج الأميركي الجديد توجهاً ينسجم مع رؤيتها لإعادة تشكيل التوازنات داخل القارة الأوروبية، ويتيح إمكانية إضعاف الروابط عبر شطري الاطلنطي التي شكلت لعقود الحاجز الأبرز أمام التمدد الروسي. وتقرأ موسكو الوثيقة الأميركية باعتبارها إعلاناً عن تحول جذري في فلسفة التحالفات الغربية؛ إذ لم يعد التركيز على تعزيز الشراكات وتقاسم الأعباء ورفع القدرات الدفاعية للحلفاء، بل بات المعيار الجديد هو «الاصطفاف الأيديولوجي الكامل» full ideological alignment الذي يضع الانسجام القيمي فوق الالتزام الأمني أو القدرة العسكرية، وهذا التغيير كفيل بإعادة رسم خريطة التحالفات داخل أوروبا وخارجها، وربما دفع القارة نحو حالة مستدامة من التذبذب الاستراتيجي.

وتتجلّى خطورة هذا التحول في أنه يعيد تعريف معنى “الحليف” ذاته. فالعلاقة التي كانت تقوم على المصالح المشتركة والضمانات الأمنية والتصورات المتقاربة لطبيعة النظام الدولي، أصبحت مشروطة بمدى التوافق الأيديولوجي مع واشنطن. ويفتح هذا التحوّل الباب أمام إعادة بناء هرم التحالفات على أسس جديدة قد تفضي إلى تفكيك البنى التي قامت عليها العلاقات بين شطري الاطلنطي طوال سبعين عاماً

ولم يكن ردّ الفعل الأوروبي أقل حدة. فقد اعتبر رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا أن الاختلاف مع واشنطن في السياسات أمر طبيعي، لكن التدخل في العملية الديمقراطية الأوروبية “غير مقبول إطلاقاً”. أما جوزيب بوريل، فذهب إلى حد وصف النهج الأميركي بأنه “إعلان حرب سياسية على الاتحاد الأوروبي”، مضيفاً أن إدارة ترامب تسعى إلى “أوروبا بيضاء، مفككة، وخاضعة لإرادتها السياسية”. ودعا القادة الأوروبيين إلى التخلي عن “وهم الشراكة المتساوية” مع الولايات المتحدة في ظل مقاربة تعتبر أوروبا مجرد مجال قابل لإعادة الصياغة الأيديولوجية.

وتجاوزت تداعيات هذه الاستراتيجية البعد السياسي لتصل إلى جوهر الأمن الأوروبي نفسه. فقد تضمنت الوثيقة الأميركية ما يوحي  بنهاية فكرة الناتو كتحالف قابل للتوسع الدائم. وترى موسكو في هذه التصدعات ما يؤكد صحة رؤيتها بأن النظام الأمني الأوروبي، كما عرفناه منذ نهاية الحرب الباردة، يعيش مرحلة انهيار بنيوي قد تفتح المجال لإعادة توزيع موازين القوى في القارة.

وتأتي هذه التحولات في لحظة شديدة الحساسية، فيما اجتمع قادة فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وسط مخاوف متزايدة من أن تدفع إدارة ترامب نحو تسوية سياسية للحرب بشروط لا تستطيع أوروبا قبولها دون أن تفقد دورها المحوري في صياغة مستقبل أمنها الاقليمي ، إذ تعيش العواصم الأوروبية اليوم حالة من القلق العميق من احتمال أن تتحول الولايات المتحدة من الضامن الأكبر لأمن القارة إلى عامل مزعزع لاستقرارها السياسي الداخلي.

وفي المحصلة، يبدو أن ما نشهده ليس مجرد خلاف عابر أو أزمة ظرفية، بل تحوّل بنيوي واسع يعيد تشكيل العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا على أسس جديدة، ويضع نهاية فعلية للنظام الدولي الذي تأسس بعد عام 1945. فالقارة التي كانت شريكاً في قيادة العالم أصبحت، في الرؤية الأميركية الجديدة، مساحة لإعادة البناء الأيديولوجي. والولايات المتحدة التي كانت الركيزة الكبرى للنظام الليبرالي أصبحت مستعدة لإعادة تعريف تحالفاتها على أساس الانسجام الأيديولوجي لا المصالح الحيوية المشتركة. وفي هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، تبدو أوروبا أمام استحقاق خطير يتعلق بمستقبل موقعها ودورها في عالم يتجه نحو إعادة صياغة قواعد القوة والتحالف والنفوذ بصورة غير مسبوقة منذ أكثر من سبعة عقود.

 

السفير عمرو حلمي 

تابع موقع تحيا مصر علي