عاجل
السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: المحنة .. والمنحة

ألفة السلامي_ كاتبة
ألفة السلامي_ كاتبة صحفية

هل نفهم حقيقة الرسائل التي تهديها لنا هذه المحنة؟

ماذا فعلت أزمة كورونا بالعالم ؟! انظروا من حولكم وتأملوا.. فجأة باريس تفقد عشاقها و رومانسيتها ؛ برج ايفيل والشانزليزيه يذرفان دموع الشوق على ثمانين مليونا من عشاقهما السائحين الذين سيهجرون محبوبتهم فرنسا هذا العام "بجنها وملائكتها"!

شاهدوا ديزني لاند بين عشية وضحاها قافرة هجرها السحر والساحر.. ولومبارديا العاشقة الجريحة أضحت بلا قلب يتخاطف فيها الإيطاليون أجهزة التنفس الاصطناعي وكأنها "بيتزا مارجريتا" أو"باستا ألفريدو". أما أسبانيا المنكسرة فقد هجرت "ولادة" حبيبها "ابن زيدون" الذي هام في الشوارع ولسان حاله يقول:
 "أضحى التنائي بديلا من تدانينا ///وناب عن طيب لقيانا تجافينا "

ولم تعد نيويورك تجري على قدم وساق، بل اللاهثون الذين أعياهم كورونا أكثر من الواقفين. ولم يعد الجدار الصيني حصنًا بل طائر منبوذ يحلق من مدينة أوهايو العتيقة يخترق حدود العالم وينقل عدوى تفوق في سرعة انتشارها سرعة الضوء، وتلقن الإنسان درسًا باهظ التكلفة: فيروس يبدو تافها بدون جيوش ولا أسلحة قادراعلى الفتك بالملايين دون قدرة دول عظمى على إيقافه. فماذا يساوي ما تعرفه أيها الإنسان المتكبر المتجبر أمام ما لم تعرفه؟ ..ألم يحن لك أن تتواضع..لم تعد تساوي شيئا بغرورك.. لقد سجنك داخل نفسك ، حرمك من رغباتك ونزواتك..حتى عباداتك ما عادت طقوسا جماعية؛ أجراس الفاتيكان تبكي، والحرم المكي يسكنه الحمام يحوم حول البيت بلا مصلّين. أصبحت العزلة الشخصية منتهى الصحة النفسية، والأحضان والقبلات تحولت فجأة لأسلحة فتاكة، وأصبح هجرالأهل والأحباب فعل حب!

سبحان مغير الأحوال يا ابن آدم : تجري جري الوحوش..وفجأة سلطانك ومالك وجاهك بلا قيمة ولا يمكنك حتى من الحصول على أنبوبة أوكسجين أوجهازتنفس اصطناعي، حتى سرير رث في مشفى عام تقاتل حاليا من أجل الحصول على حق الوصول إليه، بعد أن أصبح سؤال "من الأبقى والأصلح" المعيار الذي يحكم عليك بالموت الإجباري.. لأن الأبقى والأصلح هم فقط الأكثر شبابًا! 

هذا الكورونا الحكيم اللئيم يكتب فصلا جديدا من فصول تراجيديا الواقع لا فرق بين دولة "عظمى" متقدمة وأخرى "صغرى" متخلفة .. هدم كل الفوارق واختار ضحاياه من كل اتجاه ولون وجنس وملة وساوى بين الرؤوس فلم يفرق بين غني أوفقيرأو وزيرأو غفير..فنان أو رياضي بعضلات..ست البيت أو خادمة البيت..صاحب المصنع أو عامل في المصنع: الجميع يعيش الألم ويَختبر الذعر وتقهره الفواجع..لعله يتعلم الحكمة. إنه فيروس فيلسوف يكرس معنى جديدا وهو "عدالة المأساة"..التي لم تخبرنا عنها الجامعات والكتب شيئا في علوم الأرض بل تعلمنا ربما ما يناقضها وهوعدالة الفرصة..لكن لاسبيل إلى فرصة أواختيار مع كورونا لأن المأساة واحدة بلا بطل، وكأنه لبس رداء "روبن هود" ليذكر "كورونات البشر" - وما أكثرظلمهم وحيفهم وتسلطهم- بحقيقة طالما غابت عنهم وهي أن الناس سواسية لا فرق بين من يملك كروت الائتمان ويجلس في مقاعد البرلمان ويسافر على الدرجة الأولى في الطيران وبين "الغلبان والجيعان والفقران"..كلهم أمام كورونا بدون حظوظ ولاحول ولاقوة لهم.. لعلهم يفهمون الدرس!
دول عظمى كانت تعلم أخرى "الأدب" أصبحت تتصرف كالعصابات تسمح بالسرقة والقرصنة وتبرر الاستيلاء على ملك الخير طمعا في كمامات وأجهزة تنفس لإنقاذ مرضاها.. سياسات واسترتيجيات تتغير في لمح البصر بعد أن تصدعت رؤوسنا بسماعها لعقود طويلة..الولايات المتحدة الأمريكية صرعها الفيروس فأعلنت الطوارىء وهي تستغيث تبحث عن ملائكة الرحمة؛ وبين ليلة وضحاها فتحت باب الهجرة للأطباء والممرضين بعد أن كانت قد أوصدت حدودها ومنعت عنهم تأشيراتها.

الاتحاد الأوروبي الذي ظل أكثر من نصف قرن يبني وحدته ويرسخ تكامله يظهر منقسما وانتهازيا كما لم يظهر من قبل. وفي المقابل، الحرب فجأة توقفت في اليمن، والسوريون يلتقطون أنفاسهم بشرب "استكانة" شاي بالنعناع.. ويظنون أن كورونا مبعوث السماء ليزيح عنهم "دواعش" كثر. وسكت السلاح في طرابلس عندما تحدث كورونا فلا عجلة في طمع للسيطرة على بترول ليبيا بعد أن أصبح البرميل أرخص من بندقية ..لعلهم يفهمون الدرس!
وباستثناء الإنسان، يواصل العالم حياته بشكل أنقى وأجمل، يضع البشر فقط في أقفاص بينما الطبيعة تلتقط أنفاس الحرية. تراجعت موازنات بالمليارات كانت غالبها ديونا تستلفها دول فقيرة لاستيراد النفط، لتعيد حسابات كانت تبدو مستحيلة، دول نفطية تصول وتجول وفجأة لم تعد لها كلمة، ودول أخرى فقيرة من النفط جاءتها منحة من كورونا لتطور تعليمها وتلحق بركب التكنولوجيا وتصلح منشآتها الصحية لربما يسفيد منها تلاميذ كانوا محرومين من تعليم جيد ومرضى كانوا غير قادرين على كلفة علاج ودواء في القطاع الخاص. 

رئة الأرض ارتاحت بعد أن عاد الأكسيجين لمعدلاته الطبيعية وتوقفت المصانع عن نشرالتلوث السام وكذلك الطائرات والقطارات بعد إلغاء رحلاتها..ثمة شيء واحد وفير متاح: هواء أكثر نقاء وجودة، فازدهر اللون الأخضر وغطى جسد العالم المنهك. هذه أكثر مدن العالم تلوثا ، نيودلهي ، تسترجع سماؤها زرقتها وينير قمرها من جديد وتتلألأ نجومها وتكسر ذلك الحاجز الضبابي المعتاد.

حتى الحيوانات والطيورخرجت تتجول وتستكشف بيئتها بمجرد أن دخل الإنسان للأقفاص..مشهد مدهش تلك الباندا المسكينة التي كانت عقيمة لأكثرمن عشر سنوات عادت إليها غريزتها في التكاثر بحديقة الحيوان بعد أن اختفى الزائرون وضوضاؤهم. 

إنها المنحة عندما تولد من بطن المحنة تبعث للإنسان رسالة مفادها: أنت بلا فائدة ، الأرض والهواء والماء والسماء بدونك بخير. وعندما تعود ، تذكر أنك ضيفي وليست سيدي، فأحسن ضيافتك ولا تفسد كوكبي!
ننام في شأن ، وغدًا نستيقظ ونصبح في شأن آخر، وسيرحل كورونا..ومن المرجح أن يرحل غاضبا لأن منحته أّهدرت بلا فائدة..أو ربما لأنه يشعر بالإهانة في مجتمع ذكوري يؤنث فيروس كورونا..وهكذا هي المنحة لا يلتقطها سوى الأذكياء!
[email protected]

تابع موقع تحيا مصر علي