عاجل
الإثنين 13 مايو 2024 الموافق 05 ذو القعدة 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢١)

تحيا مصر

أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».

هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.

مقالي الحادي والعشرين في السيرة العطرة المحمدية لرسول الإنسانية وشفيع كل البشرية محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «منذ المهد واليهود ليس لهم عهد»، كان المسلمون يخشون غدر يهود بني قريظة الذين يسكنون في جنوب المدينة، فيقع المسلمون حينئذ بين نارين، اليهود خلف خطوطهم، والأحزاب بأعدادهم الهائلة من أمامهم، ونجح اليهودي زعيم بني النضير في استدراج كعب بن أسد زعيم بني قريظة لينضم مع الأحزاب لمحاربة المسلمين.

فقد انطلق كبير بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة، فأتى كعب بن أسد القرضي، سيد بني قريظة، وصاحب عقدهم وعهدهم، وكان قد عاقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينصره إذا أصابته حرب، فضرب عليه حيي الباب، فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتح له بابه، فقال حيي: «إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه»، فقال له كعب: «جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد اهراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً»، فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب، حتى سمح له على أن أعطاه عهداً من الله وميثاقا: «لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك، حتى يصيبني ما أصابك»، فنقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين، ودخل مع المشركين في المحاربة ضد المسلمين.

وسرت الشائعات بين المسلمين بأن قريظة قد نقضت عهدها معهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تنقض بنو قريظة العهد الذي بينهم وبينه، ولذلك انتدب الزبير بن العوام ليأتيه من أخبارهم، فذهب الزبير، فنظر ثم رجع فقال: «يا رسول الله، رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم»، وبعد أن كثرت القرائن الدالة على نقض بني قريظة للعهد، أرسل النبي سعداً بن معاذ وسعداً بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير وقال لهم: «انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس»، فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد، فرجعوا فسلموا على رسول الله وقالوا: «عضل والقارة»، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى الحنوا لي لحنًا: أي قولوا لي كلاماً لا يفهمه أحد سواي، وعضل والقارة: قبيلتان من كنانة سبق منهما الغدرُ بأصحاب الرسول في «ذات الرجيع».

واستقبل الرسول صلى الله عليه وسلم غدر بني قريظة بالثبات والحزم واستخدام كل الوسائل التي من شأنها أن تقوي روح المؤمنين وتصدع جبهات المعتدين، فأرسل في الوقت نفسه سلمة بن أسلم في مئتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير ليرهبوا بني قريظة، وفي هذه الأثناء استعدت بنو قريظة للمشاركة مع الأحزاب، فأرسلت إلى جيوشها عشرين بعيرًا كانت محملة تمرًا وشعيرًا وتينًا لتمدهم بها وتقويهم على البقاء، إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين الذين استطاعوا مصادرتها وأتوا بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها، واشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف، وقد تحدث القرآن الكريم عن حالة الحرج والتدهور التي أصابت المسلمين، ووصف ما وصل إليه المسلمون من جزع وخوف وفزع في تلك المحنة الرهيبة، في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)} [الأحزاب : ١٠ - ١١]، وكان ظن المسلمين بالله قويًا، وفي ذلك نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)} [الأحزاب : ٢٢].

وتزايدت محاولات المشركين لاقتحام الخندق، وأصبحت خيل المشركين تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح، وحاول خالد بن الوليد مع مجموعة من فرسان قريش أن يقتحم الخندق على المسلمين في ناحية ضيقة منه، ويأخذهم على حين غرة، لكن أسيد بن حضير في مئتين من الصحابة يراقبون تحركاتهم، وقد حصلت مناوشات قُتل فيها الصحابي الطفيل بن النعمان، والذي قتله هو وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب يوم أُحُد، إذ رماه بحربة عبر الخندق فأصابت منه مقتلاً، واستطاع حبان بن العرقة من المشركين أن يرمي سهمًا أصاب سعداً بن معاذ في أكحله (أي في وسط ذراعه)، وقال: «خذها وأنا بن العرقة»، وقد قال سعد بن معاذ عندما أصيب: «اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبُّ إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولَك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنتَ وضعتَ الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة».

تابع موقع تحيا مصر علي