عاجل
الجمعة 10 مايو 2024 الموافق 02 ذو القعدة 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

رحلة الشك..!!

يولد الإنسان ومعه معتقده؛ فمعتقد الطفل يخرج من رحم من أنجبته، ومن وضع بأحشائها الحمض النووي، ليكون الدين إرث؛ وبطبيعة الأمر هذا المنظور يسلب من الإنسان أهم حق له في الحياة وهو حرية الاعتقاد؛ ويفرض على الإنسان كتالوج جديد للحياة الوليدة ويصبح مسير على إتباعه في شهادة ميلاده بخانة الديانة.

عقب الميلاد تبدأ رحلة زرع الأفكار المقدسة بعقلية المولود، وربما الاختلاف الديني بين البشر بدأ من خلال الحمض النووي لأسرة المولود، والفارق بين أصحاب المعتقدات الدينية طبيعة الأسرة وتعلقها بالدين، والقدر هو من يتحكم في حياة البشر حسب الزمان والمكان والرقعة الجغرافية والعقلية التي تستقبل ميلاد الإنسان الجديد.

وهنا تأتي المعضلة عندما يعيد الإنسان قراءة أفكاره الدينية، وإعادة رؤيته في المعتقد، واستكشاف المسكوت عنه، والدخول في مناطق الاشتباك الملغومة المحصنة بسياج القداسة، وتنفجر هذه الألغام في وجهه مع كل لحظة تصيبه بالشك.

والشك هو الطريق المرفوض لأصحاب المعتقدات الدينية، وبتعبير دقيق هو الطريق المرفوض لمن يتاجرون بالدين، والذين يرغبون أن يظل الإنسان مغيب العقل، وهؤلاء يعتبرون المنهج الديني غير قابل للشك، وأنه حقيقية مطلقة مرسومة من الوهلة الأولي للإنسان، ويطاردون كل من يخرج عن الإرث المتوارث عبر الزمن بلعنات التكفير والزندقة والهرطقة والاقصاء الاجتماعي والغضب المجتمعي والانعزال الأسري، وكأن الشك النابع من حرية العقل - النابعة من ضمير الإنسان - جريمة لا تغتفر.

ولا ندري كيف تغير القانون الإلهي ليصبح النقل قبل العقل، واليقين قبل الشك، والخرافات قبل العلم، والحفظ قبل الفهم، والجهل قبل التدبر؟!!

ووجه الحقيقية أن الرسل والأنبياء ذاتهم خرجوا عن المألوف، وثاروا علي الإرث الخاطيء لمن كان قبلهم، وأعملوا العقل وقدموه على النقل، وطبقوا نظريات الشك وصولًا إلى اليقين، وأتخذوا من البحث طريقًا للإطمئنان والتسليم، ولنا في تعدد الأديان والمعتقدات واختلافات البشر فيما بينهم أدلة.

ودائما ما تتواجد قوى اليسار المعارضة لليمين الديني المحافظ في كل الأديان، والتاريخ يُخبرنا أن أهل المقاومة الذين يرجحون العقل والعلم والمعرفة والتدبر يولدون دومًا من رحم سطوة رجال الدين الذين لا يقبلون مبدأ الشك، فيأتي من يعيد قراءة النص الديني، ويفتح الباب للمنهج التحليلي الواقعي للنص، وما وراء النص، ومفسرينه وفقهائه وكل التشعبات الوضعية التي خلقت الوصاية الدينية والفكرية واستخدمت الترهيب وسيلة لضرب التنوير الفكري وإستغلال العقل الإنساني لجني مكاسب تحت سترة الدين.

إن الشك كنز الرحلة الحقيقية للإنسان، هو من يفتح الآفاق إلى ما هو أبعد ؛ الشك هو مفتاح الحرية الفكرية التي تجعل العقل يرى ويستوعب الصورة الأبعد ويزيح السراب والضبابية؛ بالشك يستطيع الإنسان الوصول إلي اليقين الحقيقي المبني على الأدلة الجازمة العقلية المنطقية المجردة من شوائب التلقين؛ بالشك يستطيع الإنسان حجز رحلة المعرفة والبناء الفكري والوقوف علي أرضية صلبة لا تخشي الشك بل تزداد قوة في الحجة والجدال والدليل والإقناع.

والشك لا يعني الخروج من الإطار الديني أو الدخول فيه بل يعني في واقع الأمر حرية ممارسة أهم مكتسب عرفه البشر وهو الحرية والقدرة علي الفهم الأعمق، والمدارس الفقهية التي تمردت علي الموروث وأدركت التواصل المباشر مع الخالق دون وسيط أو تلقين كان لهم الأثر الأكبر في وضع منهجية جديدة مغايرة وفتحت الطريق لتحرر العقل الإنساني من قيود الخوف وفتحت آفاق المعرفة الفكرية ووضعت أسس لمنهج أساسه المنطق والفلسفة للنهج الديني.

أما المحاربون للشك؛ فهم في الأصل لا يملكون البنية الفكرية أو الحجة أو المجادلة، وفي حقيقة الأمر هم ضحايا أفكارهم، ضحايا إرثهم الذي رسخ بداخلهم مفاهيم وقواعد غير منطقية وأصبغها الصبغة المقدسة وكأنها فرمانات إلهية وكأنهم موكلون من الإله للدفاع عنه، وكأنهم صوته في الأرض.

رحلة الشك في واقعها رحلة نبيلة تخلق إنسان سوي متجرد من شحنات الكراهية والعنف والتعصب وتصب في نفسه مفاهيم أكثر عقلانية وإنسانية، وتعيد الإنسان لفطرته الأولي التي ولد بها قبل أن يصبح مسير على ما لا يعرفه أو يحبه أو يختاره.

تابع موقع تحيا مصر علي