عاجل
الجمعة 05 ديسمبر 2025 الموافق 14 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

المرأة الحديدية.. شبانة محمود تقود وزارة الداخلية في حرب الهجرة ببريطانيا

تحيا مصر

في خطوة قد لا تزن ذرة غبار على ميزان الأرقام الضخمة، لكنها قادرة على أن تهز أركان واحدة من أعقد المعضلات السياسية في بريطانيا، نجحت وزيرة الداخلية شبانة محمود في تنفيذ الوعد الذي طالما انتظرته وكررته في ملف الهجرة. 

 لم يكن المشهد مثيراً للدراما التي تتوقعها العناوين الرئيسية؛ طائرة أقلعت من بريطانيا إلى فرنسا وعلى متنها مهاجر واحد فقط، هو الأول ضمن مخطط "واحد يدخل واحد يخرج" التجريبي. 

لكن هذه العودة الفردية، التي قابلها المنتقدون بموجة سخرية بسبب الفجوة الهائلة بينها وبين وصول 1072 مهاجراً في يوم واحد، تمثل اختراقاً لجمود طال لعقد من الزمان،  لتمثل إرادة سياسية جديدة تحاول تفكيك واقع بيروقراطي وقانوني معقد، وتدور أحداثها في أروقة وزارة الداخلية البريطانية العتيقة، والتي وصفها أحد وزرائها السابقين بأنها "معطوبة" لدرجة دفعت به إلى الاستسلام وتفكيكها.

 القيادة تحت الضغط

وسط عاصفة من التشكيك والسخرية، وجدت شبانة محمود، وزيرة الداخلية البريطانية، نفسها في موقف يختبر مصداقيتها السياسية وقدرتها على القيادة تحت الضغط، فبعد أسبوعين من الإعلان الرسمي عن بدء عملية إعادة المهاجرين إلى فرنسا، لم يشهد المطار إلا مقاعد طائرة فارغة، بينما توافد الصحفيون إلى باريس لتوثيق فشل ذريع متوقع.

 المشهد كان يبدو كمقدمة لفصل جديد من فصول الفشل البريطاني المزمن في إدارة ملف الهجرة، وهو الملف الذي دفع النظام السياسي إلى حافة الهاوية، وأصبح يهدد بزعزعة استقرار الحكم التقليدي لحزبي المحافظين والعمال.

لكن الخميس الماضي شهد منعطفاً مختلفاً، مع تنفيذ أول عملية إعادة ناجحة، لتثبت محمود أنها قد تكون السياسية الأولى التي تتعامل مع هذه القضية الشائكة بجدية حقيقية، متحدية بذلك تراثاً طويلاً من الوعود المجوفة والإخفاقات المتتالية .

إن ما يجري اليوم في بريطانيا هو أكثر من مجرد مناقشة سياسية حول الأرقام والإحصائيات؛ إنه اختبار لإرادة أمة في السيطرة على حدودها مع الحفاظ على قيمها الإنسانية. 

الوزيرة محمود، ذات الأصول الآسيوية التي قد تجعل موقفها هذا مفارقة لافتة في أعين البعض، تقف في قلب هذه العاصفة، وهي تواجه انتقادات لاذعة من اليمين الذي يرى أن عمليات الإعادة الفردية لا تساوي شيئاً أمام تدفق الآلاف، بينما تواجه في الوقت ذاته تعقيدات قانونية وبيروقراطية هائلة تلتهم أي تقدم ببطء. 

هذه القصة ليست عن ثلاثة مهاجرين أعيدوا فقط، بل عن بداية مسار محفوف بالمخاطر قد يؤدي، في حال استمراره، إلى نقطة تحول تاريخية توقف فيها قوارب الموت عن عبور القنال الإنجليزي، وتستعيد بريطانيا السيطرة على أحد أهم ملفاتها السياسية منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي.

من الاحتجاجات إلى قوارب الموت

لا يمكن فهم حجم التحدي الذي تواجهه محمود دون النظر إلى المشهد البريطاني المتفجر، فقبل أيام فقط من تنفيذ أول عملية إعادة، شهدت شوارع لندن واحدة من أكبر المظاهرات اليمينية في التاريخ الحديث للمملكة المتحدة، حيث تجمع أكثر من 110 آلاف محتج تحت قيادة الناشط المناهض للهجرة تومي روبنسون في مسيرة "وحدوا المملكة" . 

هؤلاء المحتجون، الذين رفعوا الأعلام البريطانية والأمريكية والإسرائيلية، وارتدوا قبعات ترامب الحمراء، هتفوا بشعارات مناهضة للهجرة ومطالبة بإعادة المهاجرين إلى بلدانهم، محملين رئيس الوزراء كير ستارمر وحكومته فشل السيطرة على الحدود .

غضب شعبي يتغذى على أرقام قياسية مقلقة،  ففي عام 2025 وحده، عبر أكثر من 28 ألف مهاجر القنال الإنجليزي على متن قوارب صغيرة، بزيادة قدرها 46% مقارنة بالعام السابق، وهذه الأعداد المتدفقة دفعت بقضية الهجرة إلى صدارة الأولويات الوطنية، ووضعت الحكومة العمالية تحت مجهر النقد الحاد من المعارضة والإعلام على حد سواء. كما أن التكلفة الباهظة لإيواء طالبي اللجوء، والتي تصل إلى مليارات الجنيهات سنوياً في الفنادق، أصبحت عبئاً مالياً يزيد من استياء الرأي العام .

و في خلفية هذا المشهد المضطرب، تواصلت الاحتجاجات المناهضة للمهاجرين خارج الفنادق التي تؤويهم، مما خلق بيئة من التوتر الاجتماعي الشديد جعلت من أي إجراء حكومي موضوعاً تحت مجهر النقد والمراقبة .

اختبار للعقبات قبل المعركة الحقيقية

يتمحور المخطط التجريبي الذي تنفذه وزارة الداخلية برئاسة محمود حول فكرة بسيطة في الظاهر لكنها شديدة التعقيد في التطبيق: "واحد يدخل واحد يخرج". هذا المبدأ، الذي أقر في الاتفاقية مع فرنسا، لا يهدف في مرحلته الأولى إلى تحقيق أرقام ضخمة، بل إلى تحقيق هدف استراتيجي أكثر أهمية هو اختبار وتمشيط العقبات القانونية واللوجستية التي أحبطت جميع المحاولات السابقة. 

إنه بمثابة عملية استكشافية للميدان قبل خوض المعركة الحكمية، حيث تتعرف الحكومة من خلاله على نقاط المقاومة في النظام القضائي وآليات المماطلة التي يستخدمها المحامون لمنع الترحيل.

العقبة القانونية التي برزت على الفور كانت ادعاءات العبودية الحديثة، فقبل أيام من أول إعادة ناجحة، تمكن مهاجر إريتري من إلغاء قرار ترحيله بناءً على زعم أنه ضحية للاتجار بالبشر، دون أن يتم التحقق من مزاعمه بشكل كاف. 

أما ردة فعل محمود فكانت سريعة وحاسمة؛ حيث أمرت على الفور بإعادة صياغة المبادئ التوجيهية للتعامل مع مثل هذه المطالبات بموجب قانون العبودية الحديث، في خطوة وصفها الحاضرون في الوزارة بأنها سببت "صدمة" للمسؤولين المعتادين على وتيرة بيروقراطية أبطأ . 

وعندما حاول مهاجر إريتري آخر استخدام الحجة ذاتها أمام القاضي شيلدون، كان القرار مختلفاً هذه المرة، حيث رفض القاضي الدعوى بحجة أن رواية المهاجر "لا يمكن تصديقها بصورة معقولة"، مما يمثل انتصاراً أولياً للنهج الجديد في وزارة الداخلية.

بين سخرية اليمين وتحدي الواقع

لم يكن مفاجئاً أن تلقى عمليات الإعادة الأولى، رغم رمزيتها، موجة من السخرية والنقد من قبل اليمين السياسي والإعلامي. فحزب "ريـفورم يو كي" بزعامة نايجل فاراج، الذي يتصدر حالياً استطلاعات الرأي، وصف العمليات بأنها "غير مجدية" أمام حجم التدفق اليومي للمهاجرين. 

وهذه الأصوات أشارت إلى أن وصول 1072 مهاجراً في يوم جمعة واحد يجعل من إعادة ثلاثة مهاجرين مجرد "نكتة سخيفة"، متجاهلة بذلك الطبيعة التجريبية والاستراتيجية طويلة المدى للمشروع . هذا التكتيك النقدي يعكس فهماً عميقاً لطبيعة الصراع الإعلامي؛ حيث يتم اختزال قضية معقدة إلى أرقام بسيطة تظهر الحكومة في صورة الضعيف العاجز.

غير أن هذا المنطق يتعمد تجاهل حقيقة أساسية أكدتها محمود مراراً: أن الهدف الحقيقي ليس مجرد "إعادة "، بل هو كسر الحلقة المفرغة من الاستئنافات القانونية التي جعلت من نظام اللجوء البريطاني أسير التعقيدات. الحكومة نفسها أعلنت عن خطط طموحة لإصلاح نظام الاستئناف المتعثر، والذي يحتوي على تراكم يصل إلى 106 ألف حالة، بينما تستغرق 51 ألف حالة منها أكثر من عام للبت فيها.

 وجوهر هذا الإصلاح هو إنشاء هيئة محلفين مستقلة لها صلاحية إعطاء أولوية للقضايا الخطيرة، مع إلزام قانوني بالبت في الاستئنافات خلال 24 أسبوعاً، وهذه الإصلاحات الهيكلية، التي قد لا تكون مثيرة للعنوانات، هي الأساس الذي سيمكن أي سياسة ترحيل طموحة من النجاح على المدى الطويل.

 

الطريق إلى الأمام بين الرادع الفرنسي والخيارات البديلة

مستقبل سياسة "واحد يدخل واحد يخرج" مرهون بعاملين حاسمين: التعاون الفرنسي والقدرة على التوسع، فالاتفاق الحالي مع فرنسا هو اتفاق تجريبي محدود المدة، من المقرر أن يستمر العمل فيه حتى نهاية يونيو المقبل، ونجاح محمود في إقناع الجانب الفرنسي بتمديد العمل بهذا المخطط، أو تحويله إلى اتفاقية دائمة، سيكون اختباراً حقيقياً للدبلوماسية البريطانية وقدرتها على تحمل الضغط الذي سينشأ عندما تبدأ أعداد المهاجرين المرحلين في التزايد. الوزيرة تدرك هذا جيداً، ولهذا فهي تسير بخطى حذرة في حديثها الإعلامي، متجنبةً أي تصريحات قد "تثير قلق الفرنسيين" من احتمال عودة الآلاف بشكل مفاجئ.

بالتوازي مع ذلك، تعمل محمود على إعداد خيارات أخرى في حال فشل المسار الفرنسي أو تعثره، وهذا النهج متعدد المسارات يعكس فهماً واقعياً لتعقيدات الملف؛ فالمشروع لا يعتمد على نجاح مسار واحد فقط. التوسع في المخطط التجريبي سيعتمد على الدروس المستفادة من العمليات الأولى، والقدرة على تطوير آليات سريعة وفعالة للفحص القانوني تمنع إساءة استخدام نظام الاستئنافات. الفكرة الأساسية التي تروج لها محمود بين فريقها هي أن إزالة العقبات القانونية واحدة تلو الأخرى ستمهد الطريق لتوسيع نطاق المخطط، فإذا كانت إعادة ثلاثة مهاجرين ممكنة اليوم، فإن إعادة ثلاثة آلاف ستصور ممكنة غداً، وعندها فقط قد تبدأ القوارب في التوقف، عندما تذوي الجدوى المتوقعة من عبور القنال.

تابع موقع تحيا مصر علي