خدعة القرن.. كيف ضلل السادات الموساد ومهّد لمعجزة نصر أكتوبر 1973
في واحدة من أبرع عمليات الخداع الاستراتيجي في التاريخ العسكري الحديث،نجحت القيادة السياسية والعسكرية المصرية بقيادة الرئيس الراحل أنور السادات في تضليل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والعالمية تمهيداً لحرب أكتوبر 1973.
اعتمدت الخطة على ستة محاور رئيسية شملت الجبهة الداخلية ونقل المعدات والإجراءات الميدانية والسيادية وتأمين تحركات القوات وتضليل العدو، مستندة في ذلك إلى تخطيط محكم طال كافة الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الحياة اليومية، مما أتاح للجيشين المصري والسوري تحقيق عنصر المفاجأة الكاملة الذي كان عاملاً حاسماً في مجريات الحرب وتحرير الأرض .
التأسيس لخدعة القرن
بدأ التخطيط لبنود هذه الخطة منذ منتصف مايو 1971،حين كُلف المشير أحمد إسماعيل، رئيس المخابرات العامة آنذاك، بوضع الإطار العام لخطة الخداع الاستراتيجي بشقيها المدني والعسكري. جرى بحث الشكل النهائي للخطة في اجتماع عقده الرئيس السادات أوائل يوليو 1972 في مقر المخابرات العامة، بحضور القيادات العسكرية العليا ورئيس المخابرات الحربية.
وفي ذلك الاجتماع، شدد السادات على أهمية هذه الخطة كوسيلة أساسية للتغلب على الفجوة التكنولوجية والعسكرية مع إسرائيل، وضمان السرية الكافية لمنع أي ضربة إجهاضية إسرائيلية محتملة للقوات المصرية أثناء استعدادها للهجوم .
آليات التنفيذ.. حرب الظل والإيهام
اعتمدت الخطة في جوهرها على تحقيق هدفين رئيسيين:الأول، إيهام الجهات المعادية بأن مصر لن تخوض حرباً في المدى المنظور، والثاني، إخفاء الموعد الدقيق لبدء الهجوم لأطول فترة ممكنة للحفاظ على عنصر المفاجأة. ولتحقيق ذلك، تم تنفيذ سلسلة من الإجراءات المتقنة شملت الجبهة الداخلية والإجراءات الميدانية والسيادية.
وعلى الصعيد الداخلي، تم تسريب معلومات كاذبة حول شح مخزون القمح نتيجة تلف الصوامع بأمطار الشتاء، مما استدعى استيراد كميات كبيرة دون إثارة الشكوك. كما تم تبرير إخلاء المستشفيات تحسباً لحالات الطوارئ بنشر أخبار عن تلوثها بميكروبات، بينما جرى توفير مصادر بديلة للإضاءة تحسباً للغارات عبر تهريب كميات كبيرة من المصابيح بشكل متعمد .
التمويه الميداني والاستعدادات الوهمية
في المجال الميداني،تم تمويه نقل المعدات العسكرية الثقيلة إلى الجبهة تحت ستار نقلها إلى ورش تصليح في الخطوط الأمامية بحجة إصابتها بأعطاب. كما بقيت معدات العبور والقوارب المطاطية ملقاة بإهمال ظاهري على أرصفة ميناء الإسكندرية قبل أن تنقل إلى الجبهة بسيارات مدنية.
ولخداع الأقمار الصناعية، تم بناء نماذج لقطاعات خط بارليف في الصحراء الغربية للتدريب، مع ملء المعسكرات بخيام بالة وأكشاك متهالكة لتظهر وكأنها مواقع غير فعالة. ولتعميد الخداع، أعلن عن تسريح 30 ألف مجند في يوليو 1972، كما رفعت درجة الاستعداد للجيش بشكل متكرر في أسابيع سابقة للحرب ثم أعلن لاحقاً أنها كانت تدريبات روتينية، حتى إذا جاء يوم 6 أكتوبر ظنت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أنه مجرد تدريب آخر .
الخداع السيادي واختيار التوقيت الأمثل
على المستوى السيادي،تم اختيار توقيت الهجوم بعناية فائقة ليصادف يوم عيد الغفران (يوم كيبور)، وهو أقدس أيام اليهود، حيث تتوقف كافة مناحي الحياة في إسرائيل بما فيها الإذاعة والتلفزيون، مما يضمن صعوبة في التعبئة السريعة. وكشفت وثائق حلف الناتو البريطانية لاحقاً أن جنرالاً روسياً هو من نصح باختيار هذا التوقيت بالذات لتحقيق عنصر المفاجأة القصوى، حيث يكون السكان في منازلهم وأجهزة المذياع مغلقة.
كما نفذت إجراءات خداع سياسية مثل الإعلان عن زيارة قائد القوات الجوية اللواء حسني مبارك إلى ليبيا يوم 5 أكتوبر، وتأجيلها ظاهرياً إلى عصر اليوم التالي، وكذلك التخطيط لاستقبال وزير الدفاع الروماني والأميرة مارجريت بعد يوم من بدء الحرب، مما يعطي انطباعاً بعدم وجود نوايا هجومية .
الخداع الخارجي وتضليل الموساد
لم تكن عمليات الخداع مقتصرة على الجانب المحلي،بل امتدت إلى الخداع الخارجي، حيث سربت المخابرات المصرية معلومات عبر دبلوماسي جزائري كان يعمل لصالح الموساد، تفيد بإصابة السادات بمرض عضال وضرورة سفره للعلاج في فيلا بباريس مطلع أكتوبر.
وحرصت المخابرات على حراسة الفيلا بشكل لافت لتعزيز مصداقية الخدعة، مما دفع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية لاستبعاد فكرة شن مصر لحرب وهي في هذه الظروف. كما لعبت شبكات التجسس المزدوجة دوراً محورياً، حيث يشير الدكتور محمد عبود، أستاذ الدراسات الإسرائيلية، إلى أن الاعترافات الإسرائيلية اللاحقة أكدت أن أشرف مروان، الذي عمل كعميل للموساد، كان في الحقيقة طعماً مصرياً نجحت القاهرة من خلاله في تضليل إسرائيل وإخفاء النوايا الحقيقية لشن الحرب، في عملية وصفت بأنها كسرت أسطورة تفوق الموساد .
الاعتراف الإسرائيلي بالإنجاز الاستخباراتي المصري
في شهادة تاريخية مهمة،اعترف المؤرخ الإسرائيلي شمعون ميندس، الذي كان ضابطاً بالاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال الحرب، في كتابه "جهاد السادات" بأن القيادة السياسية والأمنية في إسرائيل كانت تعاني من "تخلف عقلي" وفقر في الفكر والتفكير عندما وقعت في فخ خداع السادات.
وكشف ميندس كيف نجح السادات في تجنيد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لصالحه من خلال أشرف مروان، الذي أصبح في حقيقة الأمر بمثابة جهاز "ريموت" يستخدمه السادات لتحريك إسرائيل كلها. وأكد أن الحقيقة باتت واضحة تماماً حيث ثبت أن أشرف مروان كان عميلاً للمخابرات المصرية، ومهمته كانت تضليل إسرائيل، لأنه كان رجل السادات ولم يكن أبداً رجل إسرائيل .
تحقيق المفاجأة وانهيار نظرية الأمن الإسرائيلية
حققت خطة الخداع الاستراتيجي نجاحاًباهراً تجلى في الصدمة والارتباك اللذين أصابا القيادة العسكرية الإسرائيلية مع ساعات الحرب الأولى، حيث اعترفت وثائق إسرائيلية لاحقة بأن المباغتة كانت كاملة وأن الوقت لم يكن كافياً لتعبئة جنود الاحتياط. وقد أعادت الصحف العبرية في الذكرى التاسعة والأربعين للحرب نشر تحليلات تشير إلى أن "صدمة حرب أكتوبر" لا تزال مؤثرة في الوعي الإسرائيلي، معترفة بأن ملاك الكذب -الاسم الحركي لأشرف مروان- انقلب على الموساد وأصبح رمزاً للخداع الاستراتيجي المصري المحكم. وهكذا، مثلت خطة الخداع الاستراتيجي نصراً استخباراتياً سابقاً للنصر العسكري، وسطرت بأحرف من نور في تاريخ الفنون العسكرية، مؤكدة أن عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ يمكن أن تقهر تفوقاً تكنولوجياً وتعيد كتابة موازين القوى في المنطقة .
تطبيق نبض