اغتصب الجثة.. كيف أصبحت فتاة حدائق القبة مرآة لواقع العنف الجنسي المتصاعد؟
لم تكن جريمة فتاة حدائق القبة مجرد حادث عابر في سجلّ الحوادث اليومية التي تمتلئ بها الصفحات الأولى للصحف ووسائل الإعلام، بل كانت حدثًا مفصليًا تجاوز حدود الجريمة التقليدية ليدخل في عمق سؤال خطير: إلى أي مدى أصبح العنف الجنسي جزءًا من الحياة اليومية في الشارع؟ الجريمة التي بدأت بمحاولة اعتداء على فتاة شابة، وانتهت بقتلها ثم انتهاك جسدها بعد الموت، لم تترك للخيال مساحة لتبرير أو تفسير ما حدث، فقد جاءت التفاصيل صادمة بحيث بدت وكأنها تنتزع المجتمع من منطقة الإحساس بالأمان، لتضعه في مواجهة مرآة قاسية يصعب النظر إليها طويلًا، وفي لحظة واحدة، أصبحت تلك الفتاة — التي ربما لم يعرف أحد اسمها قبل الحادث — رمزًا مكتملًا للعنف الصامت الذي تعيشه نساء كثيرات، سواء في الشوارع أو داخل البيوت أو في أماكن العمل أو حتى داخل المؤسسات التعليمية والاجتماعية.
ارتفاع معدل العنف الجنسي
لم تكن الفاجعة في تفاصيل الجريمة وحدها، بقدر ما كانت في الطريقة التي كشفت بها هشاشة الفئات الضعيفة داخل المجتمع، خصوصًا النساء الأجنبيات واللاجئات اللواتي يجدن أنفسهن في مواجهة واقع مزدوج القسوة: غربة المكان، وانعدام الحماية. فالفتاة التي جاءت إلى مصر بحثًا عن حياة بسيطة، وجدت نفسها في لحظة مواجهة أمام شاب تحرّكت داخله غرائز وحشية لا مكان فيها لأي قيمة إنسانية. حاولت الدفاع عن نفسها، قاومت، صرخت، لكنها وجدت نفسها أمام عنف ينتمي لمدرسة لا تعترف إلا بالقوة والسيطرة والإخضاع. وما إن لفظت أنفاسها، حتى تجاوز الجاني حدود الجريمة التقليدية إلى جريمة لا يُصدّق العقل البشري أن أحدًا قد يرتكبها: الاعتداء الجنسي على جثة بلا حياة. هنا، لم يعد الأمر جريمة قتل أو اغتصاب، بل تحول إلى فعل تجريد كامل من الإنسانية، وإعلان واضح أن الوحشية يمكن أن تتجاوز الموت نفسه.
وما زاد من وقع الصدمة أن الجريمة لم تحدث في منطقة نائية أو مهجورة، بل في حيّ سكني يعج بالحياة، ما جعل الكثيرين يشعرون بأن الخطر ليس غريبًا عن حياتهم اليومية كما كانوا يعتقدون. لقد تحولت الفتاة في أذهان الناس إلى رمز لواقع يعيشونه بالفعل، وإن كانوا لا يعترفون به دائمًا. أصبح خوف النساء في الليل مبررًا، توتر البنات في الشوارع مفهومًا، وقلق الأمهات على بناتهن متوقعًا. فالقضية لم تكن عن فتاة واحدة، بل عن كل فتاة خرجت للعمل أو الدراسة، وكل امرأة تمرّ في شارع معتم، وكل أجنبية لا تعرف اللغة بما يكفي لتطلب المساعدة، وكل لاجئة تخشى الترحيل أكثر مما تخشى الاعتداء. ولذلك تحوّلت الجريمة إلى نقطة التقاء بين الألم الفردي والغضب الجماعي.
ومع انتشار تفاصيل القضية، تصاعدت الأسئلة حول حقيقة ارتفاع معدلات العنف الجنسي في مصر. فالتقارير التي تصدر عن جهات حقوقية محلية ودولية تشير إلى تزايد واضح في حالات الاغتصاب والتحرش والاعتداء خلال السنوات الماضية، وهو تزايد لا يعكس فقط ازدياد الجرائم، بل يعكس أيضًا ازدياد الوعي والرغبة في الإبلاغ. لكن الحقيقة الأكثر مرارة أن الأرقام الرسمية — مهما بدت كبيرة — لا تمثل سوى جزء صغير من الواقع، لأن كثيرًا من النساء يفضّلن الصمت خوفًا من الوصمة أو الانتقام أو عدم جدية التعامل مع الشكاوى. إن واقع العنف الجنسي لا يُقاس فقط بعدد البلاغات، بل يُقاس بما لا يُبلّغ، بما يُدفن في الصمت، بما يُخفيه الخوف، وما لا تُصرّح به الضحايا لا لمجتمع ولا لشرطة. وعندما نضع ذلك في الاعتبار، ندرك أن ما نعرفه ليس إلا الجزء الظاهر من جبل جليد هائل.
ومع ذلك، فإن السؤال الأكبر لا يتعلق بالأرقام فقط، بل يتعلق بالظروف التي تسمح لمثل هذه الجرائم بأن تحدث. فالمجتمع المصري — شأنه شأن كثير من المجتمعات التي تمرّ بمرحلة انتقالية — يعيش حالة من التوتر الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، تجعل بعض أشكال العنف تظهر كاستجابة منحرفة لهذه الضغوط. البطالة، الأزمات الاقتصادية، تفكك الروابط الأسرية، غياب الثقافة الجنسية السليمة، انتشار المحتوى العنيف عبر الإنترنت، ضعف الرقابة الأخلاقية داخل الأسرة، كل هذه عوامل تغذي موجة من العنف قد تبدو مفاجئة، لكنها في الحقيقة نتيجة تراكمات استمرت لسنوات طويلة دون معالجة حقيقية.
ولا يمكن تجاهل أن بعض مظاهر التسيّب المجتمعي تساهم في خلق بيئة خصبة لمثل هذه الجرائم. فالتسامح مع التحرش اللفظي، وتبرير سلوكيات عنيفة بأنها “طيش شباب”، والتقليل من شأن الاعتداءات الزوجية، والتعايش مع ثقافة لوم الضحية، كلها ممارسات تزرع بذور العنف الجنسي في عقول كثيرين منذ الصغر. وفي النهاية، نجد أفرادًا ليس لديهم أي وعي بحدود الجسد أو المعنى الحقيقي للرضا أو فكرة احترام الآخر كإنسان كامل الحقوق. في ظل عدم مواجهة هذا الخطاب منذ جذوره، تتكرر الحوادث وتزداد حدتها، وتتحول الجرائم من مجرد اعتداء، إلى قتل، ثم إلى اعتداء بعد الموت كما حدث في حدائق القبة.
ضرورة تحتم تغيير القوانين
ولأن القضية بهذا الحجم، كان طبيعيًا أن تتحول إلى نقاش واسع حول ضرورة تغيير القوانين وتطوير منظومات الحماية. لكن الحقيقة أن القوانين — رغم أهميتها — ليست سوى جزء واحد من معركة طويلة. فالتغيير الحقيقي يتطلب منظومة متكاملة: مسارات إبلاغ آمنة ومحمية، دعم نفسي وطبي فوري للضحايا، تدريب للشرطة على التعامل الحساس مع ملفات العنف الجنسي، سياسات حماية خاصة للنساء الأجنبيات واللاجئات، حملات توعية جادة للرجال قبل النساء، وكسر ثقافة الصمت التي تُحمّل الضحية مسؤولية الجريمة بدلًا من الجاني.
إن جريمة حدائق القبة ليست نهاية، ولا يمكن التعامل معها كقضية جنائية ستُغلق بمجرد صدور حكم. إنها تحذير قوي بأن المجتمع على حافة خطيرة، وأن العنف الجنسي لم يعد حادثًا استثنائيًا، بل أصبح حالة يجب مواجهتها جذريًا قبل أن تنفلت الأمور أكثر. الضحية — رغم أنها رحلت — تركت خلفها رسالة ضخمة لا يمكن تجاهلها: إن أمن النساء في مصر ليس مضمونًا كما يجب، وإن الصمت لم يعد خيارًا، وإن التعامل السطحي مع الظاهرة لن يجدي.
وفي النهاية، ستبقى فتاة حدائق القبة رمزًا، لا لأنها أول ضحية ولا لأنها آخرهن، بل لأنها كشفت حقيقة لم نعد قادرين على إنكارها: العنف الجنسي في مصر يتصاعد، يتوحش، ويتمدد، وما لم تتضافر الجهود لوقفه، ستتحول القصص الفردية إلى ظاهرة عامة تهدد المجتمع بأكمله. إن واجبنا اليوم ليس رثاء الضحية فقط، بل تحويل قصتها إلى نقطة بداية لتغيير حقيقي، يعيد للنساء حقهن في الأمان، ويعيد للمجتمع قدرته على مواجهة العنف لا الهروب منه.
تطبيق نبض


