عاجل
الإثنين 29 ديسمبر 2025 الموافق 09 رجب 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

الفقر كقضية استراتيجية: مقاربة متعددة الأبعاد للاستقرار والتنمية

تحيا مصر

يُعدّ الفقر أحد أكثر التحديات البنيوية تعقيدًا واستمرارية في العالم المعاصر، وهو ليس مجرد ظاهرة اجتماعية هامشية، بل قضية استراتيجية تمسّ جوهر الاستقرار الاجتماعي والسياسي للدول. فالفقر لا يقتصر على انخفاض الدخل أو ضعف الأجور، وإنما يُجسِّد حالة متعددة الأبعاد Multidimensional تشمل الحرمان من التعليم الجيد، والرعاية الصحية الملائمة، والغذاء الكافي، والسكن اللائق، والخدمات الأساسية، فضلًا عن غياب الأمان الوظيفي وفرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ويؤثر هذا الحرمان المركّب في قدرة الأفراد على الاندماج الفعّال في المجتمع، ويعيد إنتاج الهشاشة عبر الأجيال، ما يجعل معالجته شرطًا أساسيًا لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.

وتُستخدم خطوط الفقر كأداة معيارية لفهم نطاق الظاهرة وقياس أبعادها. ووفقًا لمعايير البنك الدولي، يُحدَّد خط الفقر الدولي عند مستوى 3 دولارات أميركية للفرد في اليوم، محسوبًا على أساس تعادل القوة الشرائية (Purchasing Power Parity – PPP)، بما يعكس القدرة الفعلية للدخل على تلبية الاحتياجات الأساسية داخل كل دولة، وليس قيمته الاسمية وفق أسعار الصرف. ويعني العيش دون هذا الحد عجز الفرد أو الأسرة عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة بصورة مستدامة.

أما الفقر المدقع، فيُشير إلى العيش بدخل يقل عن هذا المستوى، وهو ما يعكس أشد درجات الحرمان، حيث يعجز الأفراد عن توفير الحد الأدنى الضروري للبقاء. ويؤكد هذا التمييز أن تجاوز خط الفقر لا يعني بالضرورة تحقيق مستوى معيشي كريم، كما أن الخروج من دائرة الفقر المدقع لا يضمن الحماية من الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية. ومن ثمّ، فإن فهم الفقر يتطلب مقاربة شاملة تدمج بين الدخل، والقدرات، والفرص، والتمكين الاجتماعي.

وقد أُدرجت مكافحة الفقر في صلب الأجندة الدولية للتنمية منذ اعتماد أهداف الألفية للتنمية (MDGs)، ثم جرى تأكيدها وتعميقها في إطار أهداف التنمية المستدامة (SDGs)، التي تمثل الإطار المرجعي العالمي للتنمية حتى عام 2030، حيث يُعدّ القضاء على الفقر بجميع أشكاله هدفًا استراتيجيًا مركزيًا.

ولم يعد المجتمع الدولي ينظر إلى الفقر بوصفه مسألة ثانوية أو عارضة، بل باعتباره عاملًا جوهريًا في معادلات الاستقرار والتنمية على المستويين الوطني والدولي. فالدول التي تعجز عن معالجة أبعاد الفقر، حتى وإن حققت معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، غالبًا ما تواجه تراجعًا في التماسك الاجتماعي وتصاعدًا في التوترات الداخلية، بما ينعكس سلبًا على الاقتصاد والسياسة والأمن.

وتكشف التجارب الدولية الناجحة في الحد من الفقر عن دروس بالغة الأهمية. فقد تمكنت الصين، خلال العقود الأربعة الماضية، من إخراج مئات الملايين من دائرة الفقر، عبر سياسات متكاملة جمعت بين التخطيط الحكومي الاستراتيجي، والتحرير التدريجي للأسواق، والاستثمار المكثف في البنية التحتية والتعليم والصحة، وربط النمو الصناعي بخلق فرص عمل واسعة، ولا سيما في المناطق الريفية. ولم يقتصر هذا النجاح على زيادة الدخل الفردي، بل شمل تحسين وصول الفئات الأشد فقرًا إلى الخدمات الأساسية ورفع جودة الحياة، بما أسهم في بناء قاعدة اقتصادية واجتماعية متينة تدعم التنمية المستدامة. وقد أبرزت التجربة الصينية أهمية الاستهداف المباشر للفئات والمناطق الأكثر فقرًا، ودمج النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، بما عزز شرعية السياسات العامة ومقبوليتها المجتمعية.

أما البرازيل، فقد قدمت نموذجًا مختلفًا لا يقل فاعلية، والذي عرف ببرنامج برنامج Bolsa Família الذي ارتكز على تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية وإعادة توزيع ثمار النمو، من خلال برامج دعم نقدي مشروطة بتحسين مؤشرات التعليم والصحة، مع تركيز خاص على الفئات الأكثر فقرًا، وقد أسهم هذا النهج في تقليص الفقر وتعزيز الإدماج الاجتماعي، مؤكّدًا أن السياسات الاجتماعية الذكية، حتى في ظل نمو اقتصادي معتدل، قادرة على تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة. وتُظهر التجربة البرازيلية أن التنمية المستدامة لا ترتبط فقط بسرعة النمو، بل بكيفية توجيه عوائده لتلبية الاحتياجات الأساسية وتوسيع الفرص أمام الفئات الهشّة.

وفي السياق الإقليمي، شهدت مصر خلال العقد الأخير تطورات مهمة في جهود الحد من الفقر، من خلال سياسات وطنية ركزت على توسيع شبكات الحماية الاجتماعية، وتحسين الوصول إلى الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية، ولا سيما في المناطق الريفية والأكثر احتياجًا، ويُعدّ برنامج «تكافل وكرامة» من أبرز هذه الجهود، إذ يوفر دعمًا نقديًا للأسر الفقيرة، ويعزز انتظام الأطفال في التعليم والحصول على الرعاية الصحية. وإلى جانب ذلك، عملت الدولة على تطوير برامج التمويل الأصغر، وتعزيز فرص العمل، والاستثمار في البنية التحتية المحلية، بما يسهم في زيادة الدخل وتحسين جودة الحياة. غير أن الواقع الراهن، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، يستدعي توسيع نطاق شبكات الحماية الاجتماعية، بما يشمل برامج التغذية المدرسية، وضبط الاسعار وتطوير هياكل الأجور والمعاشات، لضمان تحقيق أهداف الحد من الفقر بجميع صوره وأبعاده.

وفي المقابل، تواجه العديد من الدول الغربية تحديات من نوع مختلف، تتمثل في تركّز الثروة في أيدي شريحة محدودة من السكان، أو ما يُعرف بالانقسام الاجتماعي Social Divide، وما يصاحبه من تآكل الطبقة المتوسطة واتساع الفجوة بين الفئات الاجتماعية. فعلى الرغم من ارتفاع متوسط الدخل، تتزايد الفوارق بين الأغنياء وبقية المجتمع، بما يولد مشاعر استياء اجتماعي ويقوّض التماسك الداخلي، ويحدّ من قدرة السياسات العامة على امتصاص آثار الأزمات الاقتصادية والمالية. وقد أظهرت هذه الظاهرة أن النمو الاقتصادي وحده، مهما بلغ، لا يضمن الحد من الفقر أو تحقيق العدالة الاجتماعية، ما لم يُقترن بسياسات فعّالة لإعادة توزيع الثروة وحماية الفئات الأكثر هشاشة.

وتتفاقم هذه الإشكالية في الدول التي تركز سياساتها على مؤشرات الاقتصاد الكلي—مثل معدلات النمو والتضخم واحتياطيات النقد الأجنبي—بوصفها معايير رئيسية لنجاح السياسات الاقتصادية، دون إيلاء اهتمام كافٍ للأبعاد الاجتماعية، ولا سيما أوضاع الطبقة المتوسطة والفئات الفقيرة، فعلى الرغم من أهمية هذه المؤشرات لتحقيق الاستقرار المالي، فإن تجاهل البعد الاجتماعي يؤدي إلى نمو غير متوازن يفتقر إلى قاعدة اجتماعية صلبة، ويصبح أكثر عرضة للاضطرابات عند أول صدمة اقتصادية أو مالية. وتُظهر التجارب أن التركيز الحصري على النمو، من دون معالجة الهشاشة الاجتماعية، يفضي إلى نمو ظاهري وتآكل اجتماعي خفي، ويؤكد ان فكرة “الانسياب التدريجي” لعوائد النمو  Trickle-down Effect ليس من الثابت نجاحها في الحد من الفقر أو في حماية الفئات المهمّشة.

ومن هذا المنطلق، يصبح القضاء على الفقر قضية استراتيجية تتجاوز البعد الاجتماعي لتغدو أداة لتعزيز التماسك المجتمعي، وتقوية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي على المدى الطويل. فالدول التي تنجح في تقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية تكون أكثر قدرة على صياغة سياسات فعّالة، وتعزيز مناعة مجتمعاتها في مواجهة التحديات، وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

كما تؤكد دروس التاريخ—وفي مقدمتها تجربة انهيار الاتحاد السوفيتي—أهمية تحقيق التوازن بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، إذ أظهر هذا الانهيار أن سياسات الملكية الشاملة لوسائل الإنتاج أخفقت في تحقيق الكفاءة الاقتصادية أو الاستجابة لتطلعات المجتمعات، وفي المقابل، يبيّن الواقع أن الاقتصادات التي تعتمد على آليات السوق وحدها، من دون دور تنظيمي فعّال للدولة وآليات عادلة لإعادة التوزيع، قد تشهد تفاوتًا اجتماعيًا عميقًا يهدد استقرارها واستدامة نموها. ويكمن التحدي الحقيقي في صياغة نموذج تنموي متوازن يدمج بين دور الدولة في التنظيم وإعادة التوزيع، ودور القطاع الخاص في الابتكار وخلق فرص العمل ، إذ تُظهر التحليلات المقارنة أن معالجة الفقر تتطلب مقاربة شاملة ومتعددة المستويات، تشمل السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والتعليم والصحة، والاستثمار في البنية التحتية، إلى جانب بناء مؤسسات قوية تضمن التكامل بين هذه السياسات. وتؤكد التجارب الناجحة أن الاستثمار في رأس المال البشري يشكل ركيزة أساسية لتقليص الفقر وتعزيز القدرة التنافسية، فضلًا عن كونه شرطًا جوهريًا للاستقرار الاجتماعي والسياسي.

وفي هذا السياق، يتضح أن الفقر يمثل أحد المحركات الخفية للتحديات الجيوسياسية. فالدول التي تعجز عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشرائح واسعة من سكانها تكون أكثر عرضة للأزمات الداخلية، وأقل قدرة على الانخراط الفاعل في النظام الدولي، بما يزيد من هشاشة العلاقات الإقليمية والدولية. ومن ثمّ، فإن معالجة الفقر تُعدّ أولوية استراتيجية، ليس فقط من منظور حقوق الإنسان والتنمية، بل أيضًا كجزء من إدارة المخاطر السياسية والاقتصادية.

وفي المحصلة، تمثل مقاومة الفقر اختبارًا حقيقيًا لنضج السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ولقدرة الدولة على الانتقال من مقاربات ضيقة تركز على المؤشرات الكلية، إلى رؤية شاملة تضع الإنسان في قلب عملية التنمية، فالفقر ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات وسياسات قابلة للمراجعة وإعادة التوجيه، والدول التي تنجح في معالجته معالجة شاملة لا تحقق تقدمًا اقتصاديًا فحسب، بل تؤسس أيضًا لاستقرار اجتماعي وسياسي مستدام، وقدرة أكبر على مواجهة عالم يتسم بتزايد عدم اليقين وحدّة التنافس وتسارع التحولات، ما يجعل من مكافحة الفقر ركيزة استراتيجية لأي نموذج تنموي مرن ومستدام في القرن الحادي والعشرين.

 

السفير عمرو حلمي 

تابع موقع تحيا مصر علي