عاجل
الإثنين 29 أبريل 2024 الموافق 20 شوال 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

أجورا.. ساحة الخراف

منذ عدة أيام ساقتني لحظة هدوء ليلية للبحث عن فيلم سينمائي يملأ فراغ حالة الأرق التي كنت أعانيها في تلك الليلة وجدتني أمام فيلم (أجورا) وهو فيلم دراما تاريخية من انتاج العام 2009، ومن إخراج المخرج التشيلي الإسباني أليخاندرو آمينابار بطولة راشيل وايز وماكس مينغيلا. تم تصويره في مالطا حيث شيدت ديكورات تمثل مدينة الإسكندرية القديمة بفنارها ومكتبتها. 

تلك لم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها هذا الفيلم الذي يتحدث عن واحدة من استثناءات التاريخ وهي الفيلسوفة المصرية (هيباتيا) التي ولدت في مدينة الإسكندرية خلال العصر الروماني في وقت كانت المدينة منارة للعلم والمعرفة والفلسفة إلى جوار أثينا.

ولمن لا يعرف هيباتيا؛ فهي فيلسوفة وعالمة رياضيات وفلك، عاشت ما بين عامي 360 - 415 ميلادية، وكانت واحدة من أوائل النساء اللواتي أسهمن في المجالات العلمية والفلسفية. تأثرت كثيرا بالفلسفة الأفلاطونية، وعلمتها لطلابها من الرجال والنساء، عاشت في صراع مع الكنيسة في ذلك الوقت التي كانت المسيحية تزيح الديانات المصرية والرومانية القديمة وتفرض قيمها وقواعدها الإيمانية على العالم والمجتمع المصري خاصة، ورغم هذا الصراع إلا أنها كانت محبوبة ومقدرة من قطاع كبير من المجتمع السكندري بمختلف انتماءاته الدينية لما عرف عنها من الحكمة والعلم.

ولكن نتيجة هذا الصراع مع رجال الدين حينها اتهمت من قبل الكنيسة بالسحر والإلحاد ومعارضة أفكارها للمبادئ المسيحية؛ فقتلت (هيباتيا) وراحت ضحية لفكرها وإيمانها بقيمة وحيوية السؤال والفكر والفلسفة، بعد أن حرض الأسقف سيريل أسقف الكنيسة بالإسكندرية أتباعه المتعصبين على قتل «هيباتيا»، خاطبًا فيهم أن الفلسفة سحرٌ وفسوقٌ، فما نتج عن هذا إلا أن هجم عليها جماعة من تلاميذه كانوا يرون في أنفسهم حماة الإيمان والدين، وجروها إلى إحدى الكنائس، وجردوها من ملابسها، وأخذوا يرجمونها بالحجارة حتى ماتت، ومثلوا بجثتها وسط احتفالات وتهليلات نصر وحشي.   

ذهبت (هيباتيا) ضحية الهوس الديني الذي يبتعد بالدين عن جوهره الحقيقي القائم على المحبة والإنسانية ويحوله إلى مقصلة يعدم عليها كل من يخالف رجال الدين دون أي اضطراب في الضمير لكن مات جلادوها وطواهم النسيان وعاشت هي حية بفكرها وعلمها وإنسانيتها.

الفيلم يعكس حقبة زمانية قديمة إلا أنه وكأننا نشاهد الحاضر ولكن بلباس مختلف؛ فما أشبه اليوم بالبارحة، نفس الفكر المتطرف، ونفس الجهل الذي يخلق مثل تلك التكوينات الناتئة في المجتمع، والتي تقتل العقل والعلم.

القتلة دفعهم اليقين بأنهم يخدمون الدين ويدافعون عن الله؛ لكن الحقيقة أنهم قتلوها لكي يبقوا في نعيم الجهل، أوليس هذا حال الكثير من المجتمعات في العصر الحديث؛ أليس هناك الآلاف من (هيباتيا) الذين يٌقتلون معنويا وثقافيا وفكريا ونفسيا وروحيا على يد المغالاة والمتطرفين في كل شيء، والنظرة بعين عوراء من رجال يسكنون أجورا أو ساحة الخراف.

لم يسلم التاريخ الديني للبشرية في كل الأديان من حقب وحشية يتزعمها بعض رجال الدين ليس دفاعا عن الدين، ولكن دفاعا عن مصالحهم الشخصية، وسيطرتهم على الناس؛ هكذا فعل كهنة معابد آمون ضد أخناتون واتباعه، حين تهددت مصالحهم ومكاسبهم، وهكذا فعل رجال الكنيسة ضد الفلاسفة والعلماء والمخالفين لهم بل وبين الطوائف المسيحية، وهكذا فعلت داعش وأخواتها من المتطرفين الاسلاميين ضد العلماء والمفكرين والمجتمع وأصحاب الديانات الأخرى، بل وأيضا وضد الطوائف المسلمة المختلفة فقهيا عنها، وهكذا فعل كهنة بوذا ضد المسلمين في بورما وغيرهم.

 

ما أسوأ أن يتحول الدين - وهو القيمة الروحية السامية التي يجب أن تكون مصدرا للسكينة والمودة والتعاطف - إلى مسوغا للقتل والبغض والصراع والطائفية البغيضة.

سلام عليك أيتها الإنسانية..

تابع موقع تحيا مصر علي