عاجل
الخميس 12 ديسمبر 2024 الموافق 11 جمادى الثانية 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»

ياسر حمدي  كاتب صحفي
ياسر حمدي كاتب صحفي

تحتفل الأمة الإسلامية هذه الأيام بذكرى المولد النبوي الشريف، النور الذي أضاء الكون كله والرحمة المهداة خاتم الانبياء والمرسلين، وبهذه المناسبة العطرة نؤكد على أن محمدًا صل الله عليه وسلم كان رسولًا للإنسانية، فلم تقتصر رسالته على فئة معينة أو قوم محدود من البشر، إنما أرسله الله سبحانه وتعالى رحمة للعالمين، وأكد المولى عز وجل على ذلك بقوله سبحانه في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].

الآية على ظاهرها، الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه محمد صل الله عليه وسلم رحمة للعالمين، هو رسول الله إلى الجن والإنس.. إلى جميع البشر، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ:28]، فهو رسول الله إلى الجميع، وهو رحمة الله إلى العالمين بأسباب رسالته وطاعة أوامره، ينزل الغيث وينتفع العالم كله؛ الدواب والشجر والجن والإنس والحيوانات، وتقوم الحجة على الكافر ويبلغ الرسالة فهو رحمة للعالمين جميعًا، فمن دخل في رسالته صارت الرحمة كاملة في حقه ودخل الجنة ونجا من النار، ومن لم يدخل قامت عليه الحجة وانتفت المعذرة وصار بذلك قد رحم من جهة بلاغه ومن جهة إنذاره حتى لا يقول: ما جاءني بشير ولا نذير، هذا نوع من الرحمة.

ثم ما يحصل من الخير من الغيث لينتفع به الكافر والمسلم، وما يحصل من الأمن بالعهود والمواثيق يحصل به الرحمة والخير للمسلم والكافر.. إلى أشباه ذلك من الخيرات التي تقع بأسباب هذه الرسالة حتى للكافر وحتى للدواب، فهو رسول الله صل الله عليه وسلم رحمة للعالمين جميعًا، لكن من دخل في الإسلام واستقام على الدين صارت الرحمة في حقه أكثر وأكمل، ومن لم يدخل في دين الله ناله من الرحمة بقدر ما حصل له من الخير من غيث وأمن ورزق واسع بأسباب هذه الرسالة، ومن أمره في بلاده بالعهود والمواثيق التي بينه وبين المسلمين إلى غير ذلك من أنواع الرحمة.

ومن أهم صفات النبي محمد عليه الصلاة والسلام «الرحمة» وقد حث رسول الله صل الله عليه وسلم المسلمين جميعاً‮ ‬على التخلق بخلق الرحمة،‮ ‬ورفع شعار‮: «‬الراحمون‮ ‬يرحمهم الرحمن‮» ‬كما نفرهم من القسوة وعدم الرحمة،‮ ‬وقال عبارته الشهيرة‮: «‬لا تنزع الرحمة إلا من شقي‮»‬ كما نصح ووجه صل الله عليه وسلم كل أتباعه في‮ ‬كل العصور وفي‮ ‬كل الأماكن إلى أن‮ «‬الجماعة رحمة والفرقة عذاب‮»‬.

‬وأكد صل الله عليه وسلم لكل من‮ ‬يمارس العنف والقسوة مع الخلق بأنه سيلقى عقاب ذلك من الخالق العادل، فقال عليه الصلاة والسلام‮: «‬من لا‮ ‬يرحم الناس لا‮ ‬يرحمه الله‮»‬،‮ ‬وجعل الرحمة كلمة ملازمة للسان المسلم طوال اليوم،‮ ‬حيث نص عليها في‮ ‬رد السلام‮: «‬وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته‮».‬
إنه رسول الإنسانية محمد صل الله عليه وسلم الذي‮ ‬بعثه الله رحمة للعالمين،‮ ‬كما أخبرنا القرآن الكريم بقوله‮: «‬وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‮»، ‬قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‮: «‬كان محمد‮ - ‬صل الله عليه وسلم‮ - ‬رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد،‮ ‬ومن لم‮ ‬يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق‮».‬

هكذا كانت رسالة رسول الله صل الله عليه وسلم كلها رحمة وعفو وتسامح ومودة وإنقاذ لعباد الله من كل صور وأشكال الضلال،‮ ‬فقد أرسله الله برسالة عامة شاملة وكاملة وهادية للناس أجمعين‮.. ‬ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في‮ ‬الحديث الشريف‮: «‬إنما أنا رحمة مهداة‮»‬،‮ ‬فرسالته صل الله عليه وسلم رحمة في‮ ‬ذاتها،‮ ‬ولكن هذه الرحمة‮ ‬ينتفع بها من‮ ‬يستجيب لدعوة الرسول ويعمل بهديه ويسير على دربه ويحرص على التخلق بأخلاقه‮.. ‬أما من أعرض عن كل ذلك فهو الذي‮ ‬ضيع على نفسه فرصة الانتفاع والهداية بهدي الرسول الكريم‮.‬

كان رسول الله صل الله عليه وسلم‮ ‬يدرك جيداً‮ ‬قيمة هذا الخلق الكريم‮ «الرحمة‮» وأنه أساس كل الفضائل ومكارم الأخلاق التي‮ ‬جاء بها الإسلام،‮ ‬ولذلك حرص على أن‮ ‬يكون رحيماً‮ ‬ودوداً‮ ‬متسامحاً‮ ‬في‮ ‬كل أفعاله،‮ ‬كما جاءت توجيهاته الكريمة لتحث المسلم على أن‮ ‬يتسلح بهذا الخلق الفاضل لينال الأجر من الخالق سبحانه،‮ ‬وليعيش محبوباً‮ ‬مرغوباً‮ ‬من كل الناس،‮ ‬فالإنسان الرحيم‮ ‬يحظى بحب واحترام وتقدير الناس جميعاً‮.‬

إن «الرحمة» خلق كريم وصف الله بها نفسه،‮ ‬كما وصف بها رسوله الكريم،‮ ‬ولذلك كانت في‮ ‬مقدمة الأخلاق الفاضلة التي‮ ‬تشتمل عليها منظومة الأخلاق الإسلامية،‮ ‬فهي‮ ‬قيمة رفيعة القدر،‮ ‬بالغة الأهمية،‮ ‬وهي‮ ‬ليست مجرد عاطفة عارضة أو شفقة وقتية مرتبطة بموقف معين،‮ ‬وإنما هي‮ ‬خلق ثابت ومتأصل في‮ ‬النفس الإنسانية،‮ ‬وشامل لكل قيم السلوك الفاضل في‮ ‬التعامل مع البشر،‮ ‬ومع كل الكائنات الأخرى،‮ بل مع الجماد،‮ ‬فالإنسان الذي‮ ‬زرع الله الرحمة في‮ ‬قلبه‮ ‬يتعامل مع الجماد برحمة ورفق‮.‬

وتأكيداً‮ ‬لذلك وترسيخاً‮ ‬لهذا الخلق العظيم في‮ ‬النفوس تكرر مفهوم الرحمة في‮ ‬القرآن الكريم‮ (97) ‬مرة توزعت في‮ ‬سوره ابتداء من قوله تعالى‮: «‬أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة‮»‬،‮ ‬وحتى قوله تعالى‮: «‬وجعلنا في‮ ‬قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة‮»‬،‮ ‬وتدور معانيها حول رحمة الله بعباده وذلك بإنزال النعم عليهم في‮ ‬الدنيا والآخرة،‮ ‬وفي‮ ‬مقدمتها بعث الله محمداً‮ ‬صل الله عليه وسلم لهم بالهدى والرحمة،‮ ‬يقول تعالى‮: «‬فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة‮» ‬ويقول‮: «‬وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين‮»‬،‮ ‬ولبيان أن الرحمة لأصحاب الفضل واجبة،‮ ‬يقول تعالى‮: «‬واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‮» ‬أو التبشير بالرحمة لمن تاب وأناب،‮ ‬يقول تعالى‮: «‬قل‮ ‬يا عبادي‮ ‬الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‮» ‬فرحمة الله قريبة من المحسنين،‮ ‬وهي‮ ‬لعباده المطيعين لأوامره سواء كانت أمراً‮ ‬أو نهياً،‮ ‬كما بين القرآن الكريم أن الرحمة هي‮ ‬أساس العلاقة بين الزوجين،‮ ‬يقول الله تعالى‮: «‬ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً‮ ‬لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة‮»‬،‮ ‬ومدح الله بها أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم‮ «‬محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم‮».‬

وعناية القرآن الكريم إلى جانب اهتمام الرسول صل الله عليه وسلم بخلق الرحمة،‮ ‬وحرص المسلم على أن‮ ‬يبدأ كل عمل‮ - ‬عادة‮ - ‬بقوله‮: «‬بسم الله الرحمن الرحيم‮». هذا الإهتمام القرآني‮ ‬والنبوي‮ ‬بخلق الرحمة‮ - ‬من شأنه أن‮ ‬يجعل هذا الخلق الكريم حاضراً‮ ‬باستمرار في‮ ‬وعي‮ ‬الناس في‮ ‬كل الأوقات،‮ حتى‮ ‬يكون التعامل بينهم قائماً‮ ‬على أساس من الرحمة والمودة والرفق‮.

الله سبحانه وتعالى هو‮ «الرحمن‮» وهو‮ «‬الرحيم‮» ‬ورحمته وسعت كل شيء،‮ ‬والله‮ ‬يحب من عباده أن‮ ‬يكونوا على صفته،‮ ‬وأن‮ ‬يتخلقوا بأخلاقه،‮ ‬وما دامت الرحمة من أبرز صفاته فينبغي‮ ‬أن‮ ‬يكونوا رحماء فيما بينهم‮.‬ والرحمة التي‮ ‬أرادها الله سبحانه وتعالى صفة لرسوله ولكل عباده الصالحين،‮ ‬تحمل معاني‮ ‬كثيرة،‮ ‬فهي‮ ‬الرقة،‮ ‬والتعطف،‮ ‬والمغفرة،‮ ‬يقول الله تعالى‮: «‬وهدى ورحمة للمؤمنين‮» ‬أي‮: ‬أردنا القرآن الكريم هادياً‮ ‬ورحمة،‮ ‬ولذلك قال سبحانه في‮ ‬آية أخرى‮: «‬ورحمة للذين آمنوا منكم‮».‬

لكن‮: ‬ما هي‮ ‬الرحمة؟ ‬والإجابة الرحمة‮ - ‬في‮ ‬أبسط معانيها‮ - ‬هي‮ ‬إرادة إيصال الخير،‮ ‬وهي‮ ‬اللطف والإحسان،‮ ‬أي‮ ‬التخلص من كل آفة أو نزعة تدفع الإنسان إلى الشر،‮ ‬مع إيصال الخير إلى الناس،‮ ‬فمساعدة الضعيف رحمة،‮ ‬ومد‮ ‬يد العون للمحتاج رحمة،‮ ‬وتخفيف آلام الناس رحمة،‮ ‬وعدم القسوة على من وما تحت‮ ‬يد المرء رحمة،‮ ‬ومعاملة الأرحام وخاصة الوالدين بالحسنى رحمة‮.‬

إن ‬غياب خلق الرحمة عن سلوك كثير من المسلمين أدى إلى انتشار العنف داخل مجتمعاتنا العربية،‮ ‬كما أدى إلى كثرة الجرائم والانحرافات السلوكية حتى داخل محيط الأسرة،‮ وغياب القيم والأخلاق الإسلامية عمومًا،‮ ‬وخاصة قيمة الرحمة التي‮ ‬اختفت من حياة كثير من الكبار والصغار،‮ ‬هو السبب في‮ ‬معظم ما نعانيه الآن من عنف وقسوة،‮ فكثير من الناس ‬يرون أن‮ «‬البلطجة هي‮ ‬الحل‮» ويرون في‮ ‬التخلق بخلق الرحمة ضعفاً‮ ‬واستسلاماً،‮ ‬وهؤلاء واهمون‮ ‬يلعب الشيطان بعقولهم،‮ ‬فقيمة الرحمة هي‮ ‬أساس كل الأخلاق الإسلامية،‮ ‬وهي‮ ‬تضفي‮ ‬على صاحبها رونقاً‮ ‬وبهاءً،‮ ‬وهي‮ ‬من الأخلاق التي‮ ‬تحمي‮ ‬المسلم من كثير من المصائب،‮ ‬ولذلك مدحها الله ورسوله،‮ ‬لما‮ ‬يترتب عليها من خير كثير في‮ ‬الحياة الدنيا،‮ ‬كما‮ ‬يترتب عليها كثير من الثواب في‮ ‬الآخرة،‮ ‬وقد رحمنا الله رحمة بالغة عندما أعلمنا أنه رحيم سبحانه تهدئة لروعنا،‮ ‬فبعد أن أخبر أنه الرحمن الرحيم أخبر بأنه كتب على نفسه الرحمة ليطمئن عباده،‮ ‬وأمر الله عباده بالتخلق بهذا الخلق القويم لاسيما مع أصحاب الحقوق علينا كالوالدين،‮ ‬إذ‮ ‬يقول سبحانه‮ : «‬واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب‮ ‬ارحمهما كما ربياني‮ ‬صغيرا‮».‬

‬النبي‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬يحثنا على التخلق بخلق الرحمة لما لها من تأثير في‮ ‬حياتنا العامة والخاصة،‮ ‬ويكفي‮ ‬قوله عليه الصلاة والسلام‮: «‬الراحمون‮ ‬يرحمهم الرحمن‮»‬،‮ ‬كما وردت عنه أحاديث كثيرة تحث المسلمين على التخلق بالرحمة فيما بينهم ومع جميع الخلق،‮ ‬وقد حذر صل الله عليه وسلم أمته من أن ترك هذه الصفة الحميدة قد‮ ‬يستوجب‮ ‬غضب الله‮ ‬يوم القيامة،‮ ‬ولذلك حث على الرحمة مع كل الخلق،‮ ‬بل وحث على الرحمة مع الحيوان أيضًا.

إن تفعيل خلق الرحمة في‮ ‬حياة الناس كفيل بحماية مجتمعاتنا العربية والإسلامية من كثير من صور الانفلات السلوكي‮ ‬التي‮ ‬تجرنا إلى جرائم كثيرة ومتنوعة،‮ ‬فالرحمة قادرة على أن تعيد إلى حياتنا الأسرية والاجتماعية الطمأنينة والاستقرار،‮ ‬ولذلك علينا أن نحتمي‮ ‬بها،‮ ‬ونجعلها منهجاً دائماً‮ ‬لحياتنا‮.‬

وختاماً‮: ‬فنحن في‮ ‬أمسّ‮ ‬الحاجة إلى خلق الرحمة لضبط سلوكنا في‮ ‬كل مكان وفي‮ ‬كل المواقف،‮ ‬ولنحمي‮ ‬أنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا من تداعيات القسوة،‮ ‬وحتى نعيش حياة سعيدة في‮ ‬ظل قيم وأخلاق الإسلام،‮ ‬ويشيع بيننا قيم التسامح والرفق والرحمة والتكافل الاجتماعي‮ ‬والإنساني‮.

تابع موقع تحيا مصر علي