عاجل
السبت 06 ديسمبر 2025 الموافق 15 جمادى الثانية 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

تداعيات التحالف بين الصهيونية المسيحية الغربية واليهودية

تعتبر التحالفات الكبرى، سواء السياسية أو الفكرية، من أبرز القوى التي أعادت عبر التاريخ تشكيل موازين القوى وصياغة صورة ‘الآخر’ في الوعي الجماعي. وفي هذا الإطار، يتجلّى التحالف بين الصهيونية المسيحية الغربية Western Christian Zionism واليهودية كأحد أبرز العوامل التي أسهمت في بلورة الموقف الغربي من قضايا الشرق الأوسط. فهذا التحالف، الذي يمتد من منطلقات عقائدية إلى استراتيجيات استعمارية، لم يقتصر على دعم المشروع اليهودي في فلسطين، بل أنتج أيضًا خطابًا عالميًا يصوّر خصوم الغرب كتهديد حضاري للحداثة ويُهمّش إمكانات التفاهم والتعاون معهم.

وكانت الصهيونية المسيحية قد نشأت كتيار ديني سياسي داخل المسيحية البروتستانتية الغربية منذ القرن السابع عشر، وتركزت بدرجة رئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة. ويقوم فكر هذا التحالف على الاعتقاد بأن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لتحقيق النبوءات الإنجيلية الخاصة بعودة المسيح. ولم يقتصر دور هذا التحالف على الأفكار العقائدية، بل تُرجم إلى دعم سياسي للمشروع اليهودي. ومع بروز الصهيونية اليهودية كحركة قومية علمانية في القرن التاسع عشر، وجد الطرفان أرضية مشتركة تجمع بين العقيدة الدينية والغاية السياسية، وارتبطت هذه الرؤية بالسياسات الاستعمارية الأوروبية، بدءًا من وعد بلفور 1917 وصولًا إلى الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، ما منح التحالف بعدًا أيديولوجيًا يبرر تدخل الغرب في الشرق الأوسط.

وتتجلى خطورة هذا التحالف في نتائجه السياسية ، اذ أصبح دعم الغرب لإسرائيل ثابتًا واستراتيجيًا، كما أشار هنري كيسنجر حين أكد أن أمن إسرائيل مصلحة قومية أمريكية لا تخضع للمساومة. وساهم الخطاب الاستشراقي الغربي في تكوين صورة نمطية عن الإسلام باعتباره دينًا مناقضًا للحداثة ومعادٍ للتقدم، كما أبرز ذلك المستشرق والمؤرخ البريطاني الأمريكي برنارد لويس Bernard Lewis حين ربط أوضاع العالم الإسلامي بـ“عجز بنيوي عن التكيف مع القيم الغربية”. هذا الطرح يعكس رؤية استعلائية تنطلق من مركزية الغرب، بحيث يُقاس نجاح أو فشل المجتمعات الأخرى بمدى قربها أو بعدها عن النموذج الغربي، ويغيب إدراك الخصوصيات الحضارية والتجارب التاريخية المتنوعة للشعوب.

وامتد هذا الانحياز إلى الإعلام، حيث تم ربط المسلمين بالعنف والإرهاب وتحويلهم إلى صور نمطية في الأفلام والأخبار، إما كمقاتلين متشددين أو كتهديدات أمنية محتملة. ومع أحداث 11 سبتمبر 2001، تضاعفت هذه الصورة السلبية حتى أصبحت مرجعية راسخة في النقاشات حول الأمن والهجرة والتعددية الثقافية. واستغلت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن هذا المناخ لإطلاق “الحرب على الإرهاب”، التي لم تكن سوى غطاء لإعادة ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط، بدءًا من غزو أفغانستان عام 2001 إلى احتلال العراق عام 2003. كما يظهر الانحياز في التغطية الإعلامية للقضية الفلسطينية، حيث يُصوَّر الاحتلال الإسرائيلي غالبًا كدفاع عن النفس، دون الإشارة المتوازنه لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ما يعكس عمق التحالف الصهيوني المسيحي الغربي مع اسرائيل في نقل المظلومية التاريخية لليهود إلى موقع الضحية الدائمة، وإقصاء الفلسطينيين من سردية العدالة التاريخية.

وقد أكد إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق Orientalism أن الخطابات الغربية عن الشرق، وفي القلب منها الإسلام، لا تعبّر عن معرفة علمية موضوعية بقدر ما تكشف عن علاقة قوة غير متكافئة بين الغرب المستعمر والشرق المستَعمَر. فالمعرفة لم تكن بريئة، بل أداة للهيمنة، إذ صُوِّر الشرق باعتباره كيانًا متخلفًا، ما وفّر مبررًا أيديولوجيًا للقول بضرورة “إصلاحه” أو “احتوائه” او "الاعتداء عليه"من خلال تدخلات عسكريه وسياسية جاءت في النهايه بنتائج كارثيه. كما دعا المفكر الأمريكي نوام تشومسكي Noam Chomsky إلى أن “الحرب على الإرهاب” لم تكن سوى ذريعة لفرض الهيمنة الأمريكية على مناطق استراتيجية، معتمدة على خطاب إعلامي يشيطن الإسلام لتبرير التدخل العسكري. وشدّد أستاذ الدراسات الإسلامية والشؤون الدولية بجامعة Georgetown، جون إسبوزيتو John Esposito على أن الإسلاموفوبيا ليست مجرد أحكام فردية، بل بناء مؤسسي وإعلامي يخلق صورة عدائية عن المسلمين لتبرير السياسات الغربية تجاههم.

ورغم قوة الخطاب التصادمي، برزت رؤى بديلة تؤكد أن المستقبل الإنساني يقوم على التفاهم لا المواجهة. فقد دعا عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني يورجن هابرماس Jürgen Habermas إلى نموذج التواصل العقلاني Rational Communication الذي يؤسس للحوار والاعتراف المتبادل بعيدًا عن الهيمنة. كما اقترحت دول إسلامية في أواخر التسعينيات مبادرة “حوار الحضارات”، واعتمدتها الأمم المتحدة شعارًا لعام 2001، لتؤكد أهمية مد جسور التفاهم. وأوضح المؤرخ البريطاني المتخصص بدراسات الحضارات أرنولد توينبي Arnold Toynbee أن الحضارات لا تنهار بالضرورة بفعل الضعف المادي، بل بفقدان القدرة على التفاعل مع غيرها وإغلاق أبواب التواصل.

وعليه، فإن مواجهة الوضع الراهن لا تتحقق بالعنف أو الصدام، بل بتأكيد القيم الإسلامية الأصيلة القائمة على العدل والتسامح واحترام الآخر، وإبراز الإسلام كجزء أصيل من الحضارة الإنسانية لا كتهديد لها.  ويقع جانب من المسؤولية في هذا الصدد على عاتق الدول والمجتمعات الإسلامية لتنقيه الخطاب الديني من القيم والأفكار المغلوطة والدخيلة التي ليس لها علاقه بالإسلام وبرسالتة وقيمه الساميه

فلقد ازدهرت الحضارة الإسلامية عبر التفاعل المثمر مع الحضارات الأخرى، ونهضت أوروبا مستفيدة من إسهامات العلماء المسلمين، ما يثبت أن التقدم يقوم على الحوار والتعددية لا على الصراع. أما التحالف المستمر بين الصهيونية المسيحية الغربية وإسرائيل ، فيزيد حدة النزاعات ويعمق الانقسامات بين الثقافات. إن الجرائم المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين تجعل الدعم الغربي لها موضع تساؤل جاد، وتفضح التناقض بين شعارات العدالة والحرية واحترام حقوق الانسان التي ترفعها وواقع سياساتها ومواقفها الفعلية، وهو ما يستدعي من الغرب إعادة تقييم تحالف الصهيونية المسيحية مع إسرائيل لضمان انسجام مواقفه مع القيم الإنسانية، ووقف السياسات التي تؤجج الصراعات وتفاقم الانقسامات بين الشعوب والثقافات، فلسنا سعداء بان يظهر الغرب واوربا تحديدا في حاله الانكشاف الراهنة.

 

السفير عمرو حلمي 

تابع موقع تحيا مصر علي