عاجل
الأحد 21 ديسمبر 2025 الموافق 01 رجب 1447
رئيس التحرير
عمرو الديب

مصر والسودان: خطوط حمراء وتنسيق استراتيجي لحماية الأمن القومي المشترك

السيسي - البرهان
السيسي - البرهان

في لحظة إقليمية شديدة التعقيد، يقف السودان على حافة انفجار تاريخي يهدد بتفكيك الدولة ومؤسساتها، وسط صراع مسلح تحوّل من مواجهة عسكرية إلى مأساة إنسانية مفتوحة. جرائم حرب تُرتكب يوميًا، مجازر بحق المدنيين، نزوح جماعي بالملايين، تشريد الأطفال، قتل كبار السن، ووقائع اغتصاب جماعي وثّقتها تقارير أممية وإعلامية، في مشهد يعكس انهيارًا شبه كامل لمقومات الحياة، وتآكلًا متسارعًا لبنية الدولة السودانية.

السودان في الحسابات المصرية… عمق استراتيجي لا جارًا عابرًا

وفي هذا السياق المضطرب، جاءت الرسالة المصرية بشأن «الخطوط الحمراء» لتؤكد تحوّلًا نوعيًا في مقاربة القاهرة للأزمة السودانية؛ انتقالٌ من إدارة الأزمة من موقع القلق والمراقبة، إلى صياغة معادلة ردع–تفاوض متكاملة، تهدف إلى حماية الأمن القومي المصري، والحفاظ على وحدة السودان، ومنع انزلاقه نحو سيناريو التفكك الشامل.

الرئيس عبد الفتاح السيسي - عبد الفتاح البرهان 

تنطلق الرؤية المصرية للأزمة السودانية من حقيقة استراتيجية راسخة وهي السودان ليس مجرد جار جنوبي، بل يمثل عمقًا مباشرًا للأمن القومي المصري. بمعني أي اختلال جذري في بنيته السياسية أو الجغرافية ينعكس فورًا على استقرار مصر والإقليم بأسره، سواء عبر الحدود الجنوبية الممتدة، أو ملف مياه النيل، أو احتمالات تحوّل السودان إلى ساحة نفوذ لقوى إقليمية غير منضبطة.

وتتعامل القاهرة مع الأزمة من زاوية ثلاث كُلف رئيسية:

كلفة الحدود، انهيار الدولة يفتح الباب أمام تهريب السلاح، والجريمة المنظمة، وتسلل الجماعات المسلحة.

كلفة النزوح، موجات نزوح ضخمة تضغط على الاقتصاد والخدمات، وتُراكم تحديات اجتماعية وأمنية داخلية.

كلفة الفراغ الجيوسياسي، ضعف الدولة يسهّل التدخلات الخارجية والصراعات بالوكالة، ويجعل أي تسوية مستقبلية أكثر تعقيدًا وأعلى ثمنًا.

الخطوط الحمراء المصرية… ردع وقائي لا تهديد مفتوح

التحذير المصري من تجاوز «الخطوط الحمراء» لا ينطلق من منطق التصعيد العسكري، بل من منطق الردع الوقائي المدروس. فقد حددت القاهرة بوضوح ما تعتبره غير قابل للمساومة، وحدة السودان وسلامة أراضيه، حماية مؤسسات الدولة ومنع انهيارها أو تفريغها من مضمونها.، رفض إنشاء أو الاعتراف بأي كيانات موازية تفرضها القوة المسلحة أو واقع الحرب.

وفق قراءات سياسية، تمثل هذه الخطوط سقفًا استراتيجيًا يهدف إلى منع فرض وقائع تقسيمية جديدة، دون الانزلاق إلى تدخل عسكري مباشر قد يوسّع رقعة الصراع بدل احتوائه.

زيارة البرهان للقاهرة.. نقطة تحوّل في مسار الأزمة

وفي هذا الصدد جاءت زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق عبد الفتاح البرهان، إلى القاهرة في توقيت بالغ الحساسية، ومع تدهور موازين القوى على الأرض واتساع رقعة الفوضى. الزيارة، التي سبقتها مباشرة زيارة إلى المملكة العربية السعودية، حملت دلالات سياسية وأمنية عميقة، تعكس إدراكًا إقليميًا متزايدًا بأن الصراع في السودان لم يعد أزمة داخلية قابلة للإدارة من الخلف.

وتشير الزيارتان إلى ملامح تنسيق مصري–سعودي آخذ في التبلور بشأن الملف السوداني، في ظل قناعة مشتركة بأن استمرار الحرب، وتمدد مليشيا الدعم السريع، يهددان بتفكيك الدولة وتحويل السودان إلى ساحة نفوذ متنازع عليها، بما يحمل تداعيات مباشرة على أمن البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

مليشيا الدعم السريع.. مشروع تفكيك الدولة

ترى القاهرة أن الخطر لم يعد محصورًا في صراع مسلح بين طرفين، بل في مشروع متكامل تقوده مليشيا الدعم السريع بوصفها فاعلًا مسلحًا خارج إطار الدولة، ومدعومًا سياسيًا وعسكريًا من أطراف خارجية. هذا المشروع، وفق الرؤية المصرية، يقوم على تفكيك الدولة لصالح كيان مليشياوي عابر للحدود والولاءات، ما يهدد بتحويل السودان إلى نموذج ليبي جديد أو ساحة صراع بالوكالة طويلة الأمد.

ومن هذا المنطلق، تدعم مصر المؤسسة العسكرية السودانية باعتبارها الإطار الوحيد القابل – رغم التحديات – لإعادة توحيد الدولة، مع رفض واضح لتحويل هذا الدعم إلى غطاء لحرب مفتوحة بلا أفق سياسي.

اتفاقية الدفاع المشترك.. ردع قانوني محسوب

ومن جانبها لوّحت القاهرة بإمكانية تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة مع السودان، في رسالة ذات أبعاد قانونية ودبلوماسية قبل أن تكون عسكرية. فاستدعاء الاتفاقية لا يعني التدخل الفوري، بل يؤكد أن أي تهديد مباشر لوحدة السودان أو أمن الحدود الجنوبية لمصر سيُواجَه بإجراءات مشروعة، تستند إلى اتفاقات ثنائية ومرتكزات شرعية دولية.

الرباعية الدولية وخريطة الطريق السياسية

تتحرك القاهرة ضمن إطار دولي أوسع عبر «الرباعية الدولية» (مصر، السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة)، التي طرحت خريطة طريق سياسية تقوم على: هدنة إنسانية قابلة للتحقق، وقف إطلاق نار تدريجي، مسار سياسي يؤدي إلى حكومة مدنية مستقلة.

ويهدف هذا المسار إلى تجميد منطق القوة، ومنع شرعنة الكيانات الموازية، وإعادة بناء الدولة السودانية على أسس مؤسسية لا ميليشياوية.

المسار الإنساني.. شرط سياسي لا مجرد التزام أخلاقي

تضع القاهرة الملف الإنساني في قلب المعادلة السياسية، باعتباره شرطًا مسبقًا لوقف الحرب لا نتيجة لها. فالممرات الآمنة، وحماية المدنيين، وضمان وصول المساعدات، تمثل أدوات لتقويض منطق الانتقام، ومنع تحويل المجتمع السوداني إلى وقود دائم للصراع.

قراءات دولية.. كيف يُنظر إلى الدور المصري؟

وفي هذا  الشأن يرى خبراء في الشؤون الأفريقية بمراكز دراسات دولية، أن الموقف المصري هو «الأكثر وضوحًا وحزمًا» منذ اندلاع الحرب، ويتقاطع مع الموقفين السعودي والأميركي في رفض التقسيم وحماية مؤسسات الدولة.

ويشير محللون في معهد تشاتام هاوس ومجلس العلاقات الخارجية، إلى أن «الخط الأحمر» المصري يمثل محاولة لضبط إيقاع الصراع عبر ردع الفوضى دون تحويل السودان إلى ساحة مواجهة إقليمية مفتوحة، مؤكدين أن نجاح هذه المقاربة مرهون بربط الردع السياسي بمسار تفاوضي واقعي وشامل.

السودان اختبار الإقليم 

وفي المحصلة، لا يمكن قراءة الموقف المصري تجاه السودان بمعزل عن معادلة الأمن القومي المشترك. «الخطوط الحمراء» ليست إعلان حرب، بل محاولة لرسم حدود للفوضى، ومنع تفكك الدولة، دون كسر التوازن الإقليمي أو فتح جبهات جديدة.

فالسودان، في الرؤية المصرية، ليس أزمة عابرة، بل اختبار حقيقي لقدرة الإقليم والمجتمع الدولي على منع انهيار دولة محورية، دون أن ينهار معها ميزان الأمن في البحر الأحمر والمنطقة بأسرها.

تابع موقع تحيا مصر علي