عاجل
الثلاثاء 21 مايو 2024 الموافق 13 ذو القعدة 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ياسر حمدي يكتب: السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية (٢٩)

تحيا مصر

أعزائي القراء والمتابعين الكرام في كل مكان، كل عام وحضراتكم بخير بمناسبة شهر رمضان الكريم، أعاده الله عليكم وعلى مصرنا الغالية والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات، عملًا بقوله تعالى «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وتماشيًا مع ما قامت به الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية من إطلاق حملة «أخلاقنا الجميلة»، لاستعادة القيم الأصيلة، والأخلاق النبيلة، فقد قررت أن أتشرف بكتابة سلسلة مقالات يومية خلال هذا الشهر الكريم عن السيرة العطرة لخير البرية تحت عنوان «السيرة النبوية.. لرسول الإنسانية».

هذه السلسلة الرشيدة خلاصة أبحاث دقيقة، وقراءات عميقة لأمهات الكتب الغنية لكبار العلماء والكتاب في السيرة المحمدية، لنتعرض خلالها لحياته الثرية، ونشأته البهية، وأخلاقه العظيمة، وصفاته الشريفة، ومواقفه النبيلة.. هذه المقالات أبتغي بها مرضات الله حتى نقتضي به، ونتأسى جميعًا بأخلاقه الجميلة، فقد قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فعلينا أن نتحلى بصفاته الحميدة، ونسير على دربه، لتسود فيما بيننا مكارم الأخلاق لأهميتها للفرد والأسرة، والمجتمع، وننعم بالمحبة والسلام.

مقالي التاسع والعشرين في سيرة خاتم النبوة وشفيع الأمة محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «حجة الوداع.. ووفاته»، كانت حجة الوداع في السنة العاشرة أواخر ذي العقدة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع في نحو مائة ألف أو يزيدون، وبعد أن علَّم الناس مناسكهم وأرشدهم سنِّ حجِّهم، خطب فيهم خطبته المشهورة على عرفات وهو على ناقته القصواء، فقال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه: « أيّهَا النّاس، اسْمَعُوا منّي أُبّينْ لَكُمْ، فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، في مَوْقِفي هذا، أَيُهَا النَّاس، إنّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِ كُمْ هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانةٌ فليؤُدِّها إلى مَنْ ائْتمَنَهُ عليها».

ثم قال صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، إن لِنسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حقاً، ولَكُمْ عَلَيْهِنّ حقّ، لَكُمْ عَلَيْهِنّ ألا يُوطْئنَ فُرُشَكُمْ غيرَكم، وَلا يُدْخِلْنَ أحَداً تكرَهُونَهُ بيوتَكُمْ، ولا يأتينَ بِفَاحِشَة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي».

ثم قال عليه الصلاة والسلام: «أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ إخْوةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لامرئٍ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ، اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض؛ فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ: كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه، أَلاَ هَلْ بلّغتُ، اللّهمّ اشْهَدْ».

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ، وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد، قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ والسلامُ عليكم ورحمة الله».. وقد اشتملت هذه الخطبة على غير ذلك من الأحكام الكثيرة، وإننا لعاجزون عن شرح ما حوته هذه الخطبة من مكنونات أسرار الله تعالى.

اكتمل التشريع في حجة الوداع، وبلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة حيث قال تعالى عن حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (٣)} [المائدة: ٣]، ثم عاد إلى المدينة المنورة فجهز جيشًا لقتال الروم، وأمّر على الجيش أسامة بن زيد وكان شابًّا، وخلال ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للبقيع -مقبرة أهل المدينة-، وهناك استغفر لأهلها ودعا لهم.

مرض صلى الله عليه وسلم في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، فاستأذن نسائه أن يتمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، فأذِنَّ له، وكان حتى في مرضه رءوفًا بالمسلمين رحيمًا بهم منصفًا لهم، وخرج مسندًا بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، فأتى المسجد وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « فإني أيها الناس أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم: فمن كنت قد جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت قد شتمت له عرضًا، فهذا عرضي فليستقد مني، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي، ولا يخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإنّ أحبّكم إليّ من أخذ مني حقّا له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس».

ونزل فصلى الظهر ورجع إلى المنبر فعاد إلى مقالته، فادعى عليه رجل أن له ثلاثة دراهم فأعطاه بدلها، وخطب في أصحابه، وقال: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرًا، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عَيْبتي التي أوَيْتُ إليها، فأحْسِنوا إلى محْسِنِهم وتجاوزا عن مسيئهم»، ولما ثقل عليه المرض تأخر عن الصلاة بالناس ثلاث أيام، قال في أولها: «مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس»، فقالت عائشة: إنه رجل رقيق، وإنه متى يقم مقامك لا يطيق ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنكن صواحبات يوسف، مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس»، فصلى أبو بكر بالناس ثلاثة أيام.

ولما كان يوم الاثنين ١٣ ربيع الأول سنة ١١ هجرية، ٨ يونيه سنة ٦٣٢ م، لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فحدثت ضجة عظيمة، وطاشت عقول الناس واختلفت أحوالهم، فمنهم من اختل، ومنهم من أُخْرِس، ومنهم من كذَّب، مات حبيب الله، وبدأ الناس يتحدثون بين مصدّق ومكذّب، فجاء عمر مسرعًا فلما رآه قال: «بل صعق كما صعق موسى عليه السلام وذهب للقاء ربّه، وسيعود وسيقطع أعناق من يقول إنه قد مات»، وصعد المنبر وتجمّع له الناس يريدون أن يصدّقوه.

وصل الخبر أبا بكر: فجاء مسرعًا ودخل المسجد وعمر على المنبر والناس في اضطراب شديد، فلم يلتف لشيء ودخل الحجرة ووجد النبي صلى الله عليه وسلم مغطى، فكشف عن وجهه الشريف فقبّله بين عينيه وقال: «طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله، أمّا الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولن تموت بعدها»، ثم قبّله وغطّاه وخرج للمسجد.. صاح أبو بكر فقال: «على رسلك يا عمر»، فلم يجبه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، فترك الناس عمر وجاؤه فقال: «أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت.. {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)} [آل عمران: ١٤٤].

كان عمر بن الخطاب واقفًا، فلما سمع الآية سقط على ركبتيه، وقال: «هذه الآية في كتاب الله؟!»، فبكى وبكى الناس، وأخذ كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يبكي فيه، وتجمع كبار الصحابة ودخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب علي لفاطمة يواسيها فبكت وقالت: «يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه».. بقي الناس على حالهم ذاك حتى جاء وقت صلاة الظهر، فأذن بلال حتى وصل لقوله «أشهد أن محمدًا رسول الله» فبكى ولم يستطع أن يتم الأذان.

وبعد ذلك خرج الناس إلى سقيفة بني ساعدة وهي ظُلَّةُ كانوا يجلسون تحتها يتشاورون فيمن يخلفه، فبويع أبو بكر الصديق، ثم أقبلوا على جهازه صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء.. توفي صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وتولى غسله علي بن أبي طالب بمساعدة عمه العباس، وكُفن في ثلاثة أثواب، وصلى عليه المسلمون فُرادى لا يؤمُّهم أحد، ثم دُفن في المدينة المنورة في حجرة عائشة رضي الله عنها حيث قُبِض.. أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يتوفانا بجواره، وأن يعمنا بشفاعته، وأن يجعلنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

تابع موقع تحيا مصر علي