عاجل
الإثنين 29 أبريل 2024 الموافق 20 شوال 1445
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألـفـة السـلامي تكتب: ثقوب في الثوب الاجتماعي!

تحيا مصر

جائحة كورونا فضحت بلا شك أمراض الدول بما في ذلك دول الرفاه. ربما لا نتفاجأ بهذه الأمراض في الدول النامية .. أن يموت رضيع مبتسر لعدم وجود حضانة أو شيخ لعدم وجود سرير في الرعاية المركزة أو جريح في حادث لعدم وصول سيارة إسعاف.. لكن اكتشاف ثقوب هائلة في الثوب الاجتماعي بدول الرفاه عند انتشارالوباء أمرصادم ومربك لأنه خالف التوقعات والصورة الذهنية عن الأمان الاجتماعي بتلك الدول.. ولوكان أمرا عاديا لما ركب مهاجرون البحر وواجهوا خطرالموت للفوز بحلم الحياة الآمنة في دول الرفاه! 

الآن فقط أفهم ما كتبه الشاعرالأشهر بابلو نيرودا في مذكراته "أشهد بأني قد عشت".. فيال هول ما عاش وما نعيش. إنه شعور الجمل وهو يسير في الصحراء مثقلا بأعباء يحملها ويصبرعلى الجوع والعطش ثم يفاجأ برذالات فارسه.
مازال الناس في دول الرفاه يتحملون تداعيات الوباء ولا يصدقون كيف يمكن أن يحدث لهم هذا، ولماذا تركتهم السياسات عرايا "بلابيص"! 

لعلها الصدمة من الفجوة بين وعود السياسات العامة وواقعها، والتي انكشفت خلال أزمة الوباء مما يدعو لوضع حد للاقتصاد "بلا قلب" الذي هوعدو الإنسان.

وحتى لا تكون معركة لعظ الأصابع تٌحفظ وتنسى بعد انقضائها، من الضروري التوقف عند دعوة الباحثين من أمثال شخصي المتواضع في مجال السياسات العامة إلى مراجعات عاجلة مرتكزة على تقويم حقيقي للأزمة والاستفادة منها لإدخال تغييرات هامة على السياسات القائمة وبلورة أخرى مع تعزيز توجهها المجتمعي بحيث يكون الإنسان والمجتمع أولوية لا تتزعزع.
لقد حضرت عشرات جلسات العمل والمؤتمرات أستمع لـ "دروس" من موظفي هيئات ومنظمات متخصصة في الحوكمة والحكم الرشيد والديمقراطية ومكافحة الفساد والشفافية. لعقود طويلة وجهوا إلى تبني حزم من سياسات الحماية والرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي وإلغاء دعم الدول للسلع وإجراءات وشروط توجيه الدعم لمستحقيه دون تسريب.. وغيرها من وصفات السياسات العامة التي تسعى للحد من تشوهات الرأسمالية، والتي هي أشبه بـوصفات الشيف الطباخ لـ"محسنات الخبيز" حتى تجعل المعجنات مرنة وطرية!


استيقظ العالم بعد أزمة كورونا ليجد حزما من العطاءات لـ"الإغاثة" تسند صفقات بالمليارات لشركات بدون شفافية أو رقابة أو معاييرجودة، و"سلام على التنافسية" التي تركت المستهلك فريسة للاحتكار، وانهزمت الأنظمة الصناعية أمام آلات خياطة ربات البيوت.. وسلام على الدعم النقدي الذي يتسرب إلى غير مستحقيه لأن الكثيرين ممن فقدوا وظائفهم يفشلون في التسجيل للحصول على إعانات البطالة ويفشلون في الحصول على نظام الرعاية الاجتماعية المتكامل!
هناك حاجة ماسة في دول العالم بما في ذلك دول نامية حديثة العهد بالتحديث والديمقراطية إلى الاتجاه نحو تطويرالسياسات العامة على أسس محورها الإنسان والمجتمع باعتبارهم أولويات لا تتزعزع، وارتكازهذه السياسات والخطط الحكومية على التأثيث لأدبيات "تحديث الحداثة".
ليتوارى النموذج المعولم المنحصر في دول ثمانية أو حتى أكثرلأنه لم يفد أصحابه، ولتصنع الدول النامية نماذج تشبهها تتمسك فيها بمنظوماتها القيمية والأخلاقية الثرية بتراث الحماية وثقافة الرعاية والتضامن الاجتماعي.
ولقد بادرمفكرو الليبرالية الجديدة إلى طرح أدبياتهم لتحديث الرأسمالية حتى لا تنهار تحت ثقل تناقضاتها.
المفكرون دايما مسئولون عن صناعة الأمل لكن السياسيين مسؤولون عن جعل الأمل ممكنا أو تحويله إلى مستحيل؛ وما أبعد هذا عن ذاك... أن يصبح الحلم في مهب الريح وأن يغادر الأمل الأرواح!

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: دعاوى التعويضات واللحم المر!
نعم المفكرون هم "زرقاء اليمامة" في مجتمعاتهم يتنبؤون بالقادم. وقد حذروا العالم الغربي الرأسمالي من ظروف طارئة قد تجبره على تغيير السياسات و"أنسنتها" لكن سيكون الوقت قد أزف والمشكلات والمخاطر المحدقة بالدولة والمجتمع تكون حينئذ قد اتجهت نحو الانهيارالشامل. وكثيرا ما نبهوا طيلة العقود الأخيرة، وبعد أزمات اقتصادية متكررة، من المضاربات التي تهيمن على النهج الرأسمالي الراهن أو"المال الذي يولد مالا" وعملية دوران المال الوهمي، والرهون العقارية التي أصبحت العصا السحرية بمجرد أن تلمس النقود تصبح لها قدرة على الإنجاب بدون تزاوج ولا علاقة شرعية!
كما حذروا من تكلفة الإنفاق العسكري المهولة خلال العقود السابقة والتي لم تسعف المواطن الغربي ولا العالم كله عندما بدأت الحرب مع عدو غيرمرئي –فيروي كورونا- بل إن السلاح المطلوب هو العلم والعلماء والمختبرات والمعدات الطبية إضافة إلى التضامن الإنساني. كما أن الأسلحة التقليدية والجنود والسفن والطائرات تراجعوا وأصبحت المقدمة للقوى الفاعلة إنسانيا القادرة على تحقيق الأمن والاستقرارللعالم وهم الأطباء والممرضون والمستشفيات المجهزة.
هذه هي المعادلة الجديدة التي سيعمل لها صانعو السياسات العامة ألف حساب مستقبلا بعد أن أهملها مهندسو المخططات والوسطاء وأذرعة السماسرة!
نعم الأزمة الراهنة فرضت إعادة التفكير في النهج الرأسمالي المعولم الذي ركز على الربح وهو مدعو الآن إلى إعادة ترتيب الأولويات في نهج جديد يعلي قيمة الإنسان ويرفع سقف الموازنات المخصصة للمجال الاجتماعي والصحي والعلمي، وتعزيز فرص الإنسان في مستقبل أفضل وخلق وعي كوني وسط دوائر صنع القرارالسياسي والاقتصادي لأنسنة السياسات العامة بجعل مصلحة الإنسان والمجتمع وصحته وسلامته وبيئته أولويات قصوى.
إن الانتصار إلى خيارات التقدم التي تنسج التنمية في عقول وأنامل المواطن، وإرساء حياة كريمة وآمنة له -ليس من خلال ترميم صدوع الفقر أورتق ثقوب العوز- لكن بالعمل على الاستثمار الحقيقي في الإنسان وبيئته وكل ما يمثل أمانه وسلامته من حقوق أصيلة ومتكاملة للجميع على حد السواء كالعمل والسكن والمستشفيات والمعامل والمدارس والجامعات والعلوم وغيرها من الحقوق التي هٌمشت في معارك السياسيين وملاكمات الأحزاب حتى أوشك المواطن أن يتعود على الصراع مع الموت.
وبدون إجراء مراجعات حقيقية للسياسات العامة لتعديل الأولويات والمرتكزات فإن الثقوب التي سببها الفيروس في الثوب الاجتماعي ستؤدي إلى مزيد من الصراعات وعدم استقرارسياسي واقتصادي واجتماعي إضافة إلى تفاقم الفجوة بين الشمال والجنوب.
تابع موقع تحيا مصر علي